الجمعة، 11 يوليو 2008

حبل وشجرة

طريق الحرية، قلب الإسكندرية وشريانها الرئيسي.. ظهر خميس عاصف استبقته أمطار رعدية غزيرة وزاعقة أطلقت أجهزة الإنذار بمعظم السيارات دون محاولات سرقة حقيقية. منطقة مصطفى كامل الراقية. حمار بعربة كارو خاوية منتظر على جانب الطريق بجوار شجرة محظوظة لم يخلعها المحافظ الجديد في حملته المستمرة منذ توليه المنصب لتطوير وتأنيق أرصفة الثغر على حساب كل ما عداها من عناصر البنية التحتية. المنظر غريب.. الحمار منتظر في شارع الإسكندرية الرئيسي وفي أحد أرقى أحيائها وعلى بعد خطوات من ونش المرور وضابطه السمج المشهور بين قائدي سيارات المدينة بأنه لا يرحم أصحاب السيارات غير المميزة. أين صاحب الحمار والعربة؟

عند الشجرة التالية، المحظوظة أيضاً، أرصد تجمعاً كبيراً من البشر ملتئماً على الطريقة الدائرية المصرية التي توحي من فرط حماس أصحابها وتشدده في الرأي بأن كل مشارك في تلك المظاهرة المصغرة هو قاضي القضاة أو هو المعني الأول بشأن التجمهر وما ورائه من أسباب. في وسط التجمع ألمح رجلاً يبكي ويسترحم الملتفين حوله وأحد رجال الشرطة المرتدين زياً مدنياً يمسك بتلابيبه ويتوعده بأسوأ مصير ويكيل إليه لكمات مركزة كل نصف دقيقة ويحاول جره بعنف إلى الناحية الغربية، حيث قسم سيدي جابر، ولكن الرجل يستميت في التمسك بموقعه ربما لأنه جرب احتفاء أقسام الشرطة بأمثاله من قبل. الظاهر أن صاحب الحمار سرق شيئا وحمله معه على عربته التي يجرها الحمار المسكين ولكن عيون الشرطة اليقظة لمحته وأمسكت به في الوقت المناسب. لم أستطع معرفة طبيعة الشيء الذي سرقه الرجل، الذي كان يبكي بحرقة وندم مفتعل لم يفلح في إثنائي عن التعاطف السطحي معه، بل ولم أستطع التأكد مما إذا كان قد سرق شيئاً بالفعل أم أن الأمر لا يعدو كونه مثلاً قد تطاول على أحد الباشاوات أصحاب السيارات الفارهة فكان لابد من إنزال أقصى العقاب به إعمالاً لمبدأ العدالة الفورية الناجزة ضد الفقراء. لم أستطع التحقق من هذا ولا ذاك لأن إشارة كيروسيز تحول لونها إلى الأخضر بأسرع مما كنت أود وأتوقع

***

نفس المكان، ليلة الخميس نفسه، والظروف الجوية على ما هي عليه أو ربما أردأ لأن المطر ينهمر الآن بكثافة تفوق ما كان في الظهر. عائداً أنا إلى المنزل كنت بعد يوم طويل مرهق. لمحت شيئا غريباً عند الشجرة نفسها (الشجرة الأولى). الحمار المسكين مازال هناك، ولكن بلا عربته. يبدو أن البعض قد قام بحله من العربة لتسيير المرور في طريق الحرية، او ربما قام أحدهم بسرقة العربة ولم يجد من الحمار نفعاً محتملاً فتركه إلى أن جاء واحد آخر وربطه في الشجرة بحبل قصير لم أستطع تحديد مدى قصره بفعل الظلام وسرعة المرور في تلك اللحظة من المساء. حرام والله.. الحمار قضى أكثر من سبع ساعات واقفاً في نفس المكان الممطر البارد بلا طعام ولا شراب وغير حاظ من متاع الدنيا سوى بحبل قصير ونصيب من جزع شجرة قديمة. الحمير، إذن، في زماننا هذا عليها أن تدفع ثمن أخطاء اصحابها. جميل جداً، وهنيئاً لنا بمدنيتنا المتحضرة التي تعبر عن نفسها لساعات في أحد أرقى أحيائك يا إسكندريتي. لم يفكر أحد من الأهالي أو أصحاب المحلات في طلب تدخل الشرطة، مثلاً، لنقل هذا الحمار المسكين إلى مكان ما لحين انتهاء وصلة التعذيب ضد صاحبه
!!!!

***

أو ربما خاف الحمار ورفض زيارة القسم
!!!

ليست هناك تعليقات: