الجمعة، 11 يوليو 2008

حروف هجاء وجودية

(أ)
أرتحل بين ساحتين، وأقطع الطريق الوحيدة الرابطة بينهما ذهاباً وإياباً مرات ومرات في اليوم الواحد. صحيح أنني لا أعرف أحداً في هذه أو تلك، وأن هواء الساحتين الساخن لا يروق لي.. لكن، أليس هذا بأفضل من أن أقبع في نفس المكان في انتظار ما لا يجيئ؟

(ب)
بمرور الوقت، بعد الحدث الأهم، أشعر بأن إحساساً جديداً غير مألوف ولا مفهوم بدأ يدب في أعماقي ويطرق بابي بعنف. هل سبق لك أن عايشت ذلك الإحساس المهيب العميق الذي يراود الناس فجأة ويتملكهم بالكامل دون أن يفصح لهم عن حقيقة مكنونه ولا عن دوافعه إلى زيارتهم بذلك الإلحاح؟

(ت)
تشعر أحياناً – وبالأخص عند الغروب في أيام الشتاء القصيرة – بأن هناك من رحل قبل أن ينجز مهمة ما خطيرة وكاشفة كلفه بها شخص لا يعرفه ولا يثق به، وتظن أنك تعرف أحد الشخصين جيداً

(ث)
ثمة حالات نتوخى فيها الحذر ثم نندم، وحالات نندم لأننا ما توخينا فيها الحذر بإحدى درجاته. المهم أنه دائماً علينا أن نندم لسبب أو لآخر في هذه الحياة

(ج)
جميل جداً أن أتحرك في أي اتجاه فلا يجد الوقت سبيلا إلى دهمي.. هذا ما أظن أغلب الأوقات، لكن من أين آتي بقوة الدفع اللازمة لذلك التحرك، ناهيك عن بوصلة تحديد الاتجاهات في عالم ركامي؟؟

(ح)
حياة واحدة لا تكفي، بكل تأكيد، لفك شفرة ولو سر كبير واحد من أسرار حياتنا الكبرى. الغريب أن كثيرين يدَّعون أنهم فهموا كل شيئ - تقريبا - في أقل من حياة واحدة، مع أنهم لم يتلبسوا أبداً بالتفكير في أي شيء. نفس القاعدة الكونية: الكل راض عن عقله

(خ)
خارج حسابات الزمان تفقد كل الأشياء قيمتها، لكن ليس للمكان التأثير ذاته في كل الأحيان أو على كل الأشياء. النسبية لا تعمل دائماً، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بمتغيرات تحت سيطرتنا النسبية

(د)
دليلي الوحيد إلى فهم نفسي هو نفسي ذاتها، وربما لهذا السبب بالذات لم أعد أفهمها، على فرض أنه قد سبق لي ذلك أصلاً

(ذ)
ذات مرة سأقتبس قبس سعادة من عابر سعيد وسأشعل به شمس سعادتي قبل أن تتحول إلى قزم فلكي أبيض رديء. أنا واثق من هذا، لكني مازلت فقط في انتظار عبوره والتثبت من كونه يملك فائض سعادةً

(ر)
رأيت نفسي في أحلام ليلية عديدة (وإن كنت لا أكون بطل أحلامي في كل ليالي الأطياف)، وفي كل مرة أتشكل لنفسي في هيئة مختلفة بوضوح. القاسم المشترك بين كل المرات، أو الهيئات، هو أنني أكون دائماً في حالة بحث ليلي يائس عن شيء مهم: معنى ما أو تفسير ما

(ز)
زلاتنا لا تنتقص من قدرنا ولا تفقدنا مكانتنا - بالضرورة - أمام أنفسنا بقدر ما تفعل نفس الشيئين أمام الآخرين، أو بالنسبة إليهم. والعلاقة بيننا وبينهم تبادلية بالطبع

(س)
سمائي مختلفة جداً عن سمائك: على الأقل سمائي تحدد سقف حدودي أنا – بالذات – القصوى

(ش)
شارعي ليس بالضرورة الذي أسكن فيه. قد يكون هو الشارع الهادئ الضيق الطويل الذي يسكنني في لحظات شرودي الجغرافي منذ الصغر، أو لعله ذلك الذي تسكنه ذكرياتي الغالية مع أحباء كان عليهم أن يرحلوا، لأسباب أعلمها وفشلت - عكسهم - في إقناع نفسي بها

(ص)
صغيرة جدا كلمة "حب".. من حيث عدد حروفها فحسب

(ض)
ضاعت مني أشياء كثيرة لم أندم عليها، فندمي الأكبر هو على حلمي البسيط الذي لم أستطع أبداً تحقيقه، فما بالك بإضاعته من بين يدي

(ط)
طالما شعرت بذلك الوخز الخفيف في ضلوعي واستهنت به. اليوم فقط عرفت أنه لم يكن وخزاً. لقد كان ناقوس تحذير من ألم أكبر متصاعد، في القلب

(ظ)
ظواهر كثيرة في حياتنا هذه ليس لها تفسير مقنع، على أن هذا في حد ذاته لابد أن يقنعنا بالبحث لها عنه بدأب لا ينقطع

(ع)
عانيت كثيراً في غيابها وظننت أن كل شيء قد انتهى للأبد، بما في ذلك شخصي وكياني (على اعتبار أن الفراق بكل قسوته نجح في جعلي من "الأشياء"). وحين عادت، في مفاجأة كاملة وغير مرغوب فيها، شعرت بمدى تفاهتي وتفاهة معاناتي السابقة

(غ)
غيرت عنواني، لكن يزعجني أن الخطابات مازالت تصل إليَّ من نفس الأشخاص الذين انتقلت لأقطع الوصال معهم إلى الأبد. كم هو وفيٌّ ساعي البريد العجوز

(ف)
في يوم واحد شعرت بالفرح، ثم الحزن، ثم الندم، ثم اللامبالاة، ثم زارتني تباشير فرح جديد.. دورة حياة شعورية كاملة بين شمسين. حقاً، ما أقصر وأتفه تجارب البشر

(ق)
قليلون هم من يلاحظون ألوان أعيننا الحقيقية. هل لاحظت ذلك؟

(ك)
كلما مررت بنفس الطريق تذكرت حوارنا الذي كان من المفروض أن نكمله فيه. لكن، على أي حال، هناك حوارات أخرى غيره - أكثر أهمية - افترقنا قبل أن نبدأها حتى. أظنه عليَّ أن أتجنب المرور في طرق وسط المدينة، لحين عودة الغائبة

(ل)
لو لم أحلم بها في تلك الليلة، هل كانت القصة برمتها ستبدأ في الصباح التالي؟ وهل كنت لأوفر على نفسي وجع القلب الشهير؟

(م)
مازالت الأشياء تحتل مكانة الصدارة في قلبي: أحن إليها، أفتقدها، وأتحين الفرص للقائها ومعانقتها فوق الشوارع المغسولة بماء المطر وأضواء السيارات. والناس المرتبطون بالأشياء، كذلك، أشتاق إليهم بين الحين والآخر

(ن)
نامت، وسهرت أنا في حراستها. ولما صحوت من غفوتي - أو هفوتي - العابرة، لم أجدها. هل كنت أحتاج حارساً إضافياً؟

(هـ)
هل تحلم معي بعالم من صنعك أنت؟ هل تحلم بإعادة عقارب الساعات إلى الوراء بعدد ساعات عمرك الماضية؟ حسناً، لا أنصحك بممارسة ذلك الحلم المضيع للوقت والشغف. انظر إليَّ وتعلَّم

(و)
ومضت الفكرة في رأسي ليلاً، حلمت - أو احتلمت - بها مرتين على الأقل في نفس الليلة. ولما صحوت منتشياً وتحمست لتنفيذها وجعل حياتي بها أجمل، وجدت أنها ما كانت سوى شهوة لا يمكن بناء أي نجاحات حقيقية عليها، أو على الأقل في غير مضامير المجون

(ي)
ينتابني شك كبير في قدرتي على الصمود في مواجهة أكثر ما يحبط البشر ويكسرهم، لكن لا يراودني أدنى شك في قدرتي على نسج الأحلام، لي ولمن أحب. ولا أظن أن هذا يكفي

------------------------------------------------------------------------------------------------


بتَصَرُّف، نقلاً عن مجموعتي القصصية/النثرية الأولى - مطبوعات هيئة قصور الثقافة، 2004


ليست هناك تعليقات: