الجمعة، 11 يوليو 2008

ذاكرة الشواطئ

كل شبر هنا أعرفه جيداً، أحفظ تضاريسه ومقوماته. أعرف النتوءات والوديان الصغيرة في سور الكورنيش الدائري: أعرفها حين يضرب بجذوره العميقة في سفر التاريخ المنسي جهة الغرب - حيث الميناء، وأعرفها حين يسعى لتجديد شبابه ورونقه جهة الشرق - حيث القصر. أعرف وجوه كثيرين من بائعي الفريسكا والمثلجات والترمس والحمص الحار، بسمارها الجنوبي المميز وقسماتها الحادة التي لا تكاد تبتسم إلا للزبون السخي. أعرف تلك المناطق من السور والإفريز التي يندر أن تجلس قبالتها دون أن يغمرك رذاذ المياه المتصادمة مع الصخور المعشبة الهائلة، وتلك المناطق الآمنة بالنسبة لمن لا يود أن يعود إلى بيته محملة ملابسه بالنداوة المالحة. أعرف أين يكون البحر عميقاً مغرقاً، وأين يكون ضحلاً وديعاً - ألست ممن يجيدون لغة الألوان البحرية؟.. أعرف أين يمكنك أن تهمس إلي اليم - مسماه المهجور - دون أن يسمعك ذو شأن، وأعرف أين يمكن أن يُكَلَّل بالموافقة طلبك من المارة العابرين التقاط الصور التذكارية لك مع من تحب، بمن في ذلك نفسك. أعرف حتى أين تكثر الحوادث ، وأعرف مناطق العبور الأكثر أماناً، حيث يمكنك أن تتسلى بعملية العبور دون أن تخشى على عظامك أو على حاجياتك وهندامك

أعرف الشريط الشاطئي كله، ومنذ زمن بعيد.. هنا تكثر الفتيات الجميلات المتدللات في خفة أمام أعين الناظرين، وهنا ترى أردية السباحة المتحفظة وقد أكسبت المكان وقاراً غير منطقي ولا متناسب. هنا الأسعار مناسبة أو الدخول مجاني، وهنا شاطئ خاص للصفوة، إن انطبقت التسمية. هنا الرمال أكثر استماتة في التوحد بالأقدام، وهنا رائحة اليود المنعشة تبلغ أعلى مستوياتها. هنا تجد مقهى على الجانب المقابل يبيع المشروبات المعلبة بأسعار أرخص منها على الشاطئ - وإلى جواره عربة سندوتشات الجمبري الشهيرة، وهنا الشاطئ المقفر يبدو واحة غناء بالنظر إلى جانبه السكني المقابل.. أعرف كل كل شيء: حتى أين يمكنك أن تجد القطط تتسكع عند أقدام العشاق الجالسين على المقاعد الأسمنتية الريفية القميئة، وأين يكثر الشحاذون اللحوحون -كعادتهم، وأين كان يقع الكازينو الشهير القديم الذي كاد رشدي أباظة ينتحر عنده - على الشاشة

أعرف كل الأشياء في هذا المكان، لكن المكان نفسه لا يعرفني. لا أعرف العوم، ولا أحب الهمس إلى البحر في حضرة المتطفلين - وما أكثرهم في الموسم الراهن. لا أشتري الحمص الحار المضافة إليه مرقة الدجاج ولا آكل الترمس المنقوع لعدة ليال في مياه ترعة المدينة الجنوبية. والقطط لا تملك وفاء الكلاب وسرعان ما تنسى من ألقى لها ببقايا الطعام، وربما بالأخص قطط الشواطئ. الكل هنا هوائي، ولا أحد يذكر من رأي بالأمس وممن اشترى في الصباح وعلى من تلصص في غرفة خلع الملابس منذ لحظات. الشواطئ لا تتسم بالوفاء، ومرتادوها كذلك. الكل عليها عابرو سبيل.. عابر يمضي ليأتي محله عابر جديد بذاكرة - كذاكرة سابقه - عديمة الوفاء كذاكرة الأسماك ذات الثواني الثلاث. حتى مكاني الأثير، بجوار الصخرة المتوسطة، عند النتوء البارز على السور القديم، قبالة المقهى الذي كان ثقافياً في السابق.. حتى مكاني التليد لا أجده في انتظاري كلما أردت استخدام حقي في الجلوس فيه: فكثيراً ما يستقبل غيري بترحاب المتملقين، وكثيراً ما يذرو هواؤه أوراق الجريدة التي أضعها تحتي في جلستي لأجل نظافة سروالي. الكل على الشواطئ لا يحفظ الوجوه ولا العهود. حتى قصص الحب التي تبدأ على الشواطئ غالباً ما لا تتسم بالدوام

كيف أصادق المكان بذلك العمق ولا يصادقني هو ولا يفكر حتى في ذلك؟

ليست هناك تعليقات: