الجمعة، 11 يوليو 2008

تذاكر - قصة قصيرة


لو سمحتي عايزها تكون قدام ومتطرفة، على أي جنب


اندهشت الفتاة بعض الشيء، ومنحتني تذكرة بالمواصفات التي حددتها لها. حفظت التذكرة في جيبي ولا أدري لماذا نظرت إلى رقمها في بلاهة وكأنه علي حفظه أيضاً. المهم أن مقعدي سيكون في أقصى يسار القاعة، وسيكون على بُعد ثلاثة صفوف من شاشة العرض، ولا أظن أن أحداً سيكون إلى جواري في موقع كهذا. حتى الفيلم نفسه الذي اخترته لا يمكن أن يدخل القاعة من أجله متفرجون كُثر، وأغلبهم سيكون في المقاعد الخلفية. الناقد في صفحة السينما بالجريدة اليومية الرصينة قال إنه فيلم لا يمكن أن ينجح تجارياً ولا حتى نقدياً: أحداث مأساوية وسيناريو مفكك. إذن فهو اختيار صائب من كافة الأوجه بالنسبة إلى – من هو في حالي – راغب في الاختلاء بنفسه والحديث إليها، والشكوى منها وإليها، وربما البكاء أمامها بلا كبرياء مفتعل، تحت جنح الظلام والضوضاء الفنية المتهافتة

***

دخلت القاعة بمجرد أن سمح أصحاب القمصان الزرقاء لحاملي التذاكر بالدخول إليها، وربما كنت أول من دخلها. وجدت مقعدي فعلاً في مكان مميز – بمعاييري الراهنة: بعيد تماماً عن الأعين، وربما حتى لن يشعر المتفرجون الخلفيون بوجودي فيه أصلاً. لكن الجو بارد في القاعة بوضوح، وبدأت أشعر بالندم على عدم ارتداء معطفي البني في مثل ذلك الوقت من العام، ومن اليوم. والموسيقى غير مميزة، كذلك. سمعتها من قبل على الأرجح، ولم أحبها أبداً. يبدو، على أي حال، أنها مقدمة موفقة من دار العرض لفيلم لن يختلف تقييمي النهائي له كثيراً عن تقييمي الأول والنهائي (أو الحالي) لها، لكن ذلك طبعاً إذا ما صدق حدس الناقد في الجريدة. أما باعة المشروبات والمناديل فقد تجاهلوني تماماً واكتفوا بمطاردة والإلحاح على شاغلي المقاعد الخلفية الذين مع كل منهم طفل أو زوجة أو حبيبة، وعادة ما تؤتي ضغوط الباعة ثمارها في مثل تلك الظروف. بالطبع لم يحزنني أنهم تجاهلوني، بل العكس تماماً صحيح. أريدها حفلة سينمائية لا أنشغل خلالها سوى بنفسي وبهمومها. لا أبكي خلالها سوى على نفسي، ومن أجلها. وأظن الفيلم نفسه جوه من النوع الحزين، أو هكذا قال الناقد في الجريدة، وبالتالي فلن أتلبس بضحكة هنا أو هناك. حقاً كان اختياري مثالياً، لكن ليتني ارتديت المعطف في آخر لحظة، قبل النزول بلا تخطيط، لأن البرد بدأ يقسو أكثر وأكثر وبدأت أخشى أن يدفعني في لحظة ما وسط العرض، أو أثناء الاستراحة، إلى الالتحام بشاغلي المقاعد الخلفية التافهين. الآن فقط اكتشفت أيضاً أن موقعي هذا هو الأقرب إلى فتحة التهوية الوحيدة بالقاعة، حيث يمكنك أن تشعر برذاذ المطر في الخارج على استحياء

***

البطلة جميلة جدا والبطل يحبها فعلاً، والقصة ككل تقليدية ولكنها ممتعة ولا أدري متى سيبدأ السيناريو الممل الذي كتب الناقد عنه في الجريدة في التحقق تدريجياً. ولا أدري أصلاً إن كنت فعلاً في انتظار لحظة الانكشاف والانقلاب تلك. صحيح أنني أود الاختلاء بنفسي والتفكير العميق؛ أريد التفكير بلا تطفل على خصوصيتي حتى من الأبطال السينمائيين وصانعي الأفلام المحترفين. ولكن الفيلم أمامي جيد، حتى الآن. وبالطبع ألمح جواً حزيناً في الفيلم وأستشف تمهيداً من صناع الفيلم لعقدة متصاعدة وحبكة ربما تكون حزينة وقاسية على البطلين، أو على أحدهما، ولكنني مستمتع على أية حال بما أرى أمامي على الشاشة. كما أن رقبتي بدأت تؤلمني، وظهري أيضاً، ولكن ألم أختر أنا موقع المقعد بمواصفات قاسية أدهشت بائعة التذاكر النحيلة؟؟ إذن فلأستمر في إدهاشها، لو كانت تراني الآن أصلاً

والبرد بدأ ينخر في عظامي فعلاً، كذلك. أشعر بوخز مؤلم أعلى ركبتي، وأظنه بسبب الجو القارس البرودة. لكن الأحداث على الشاشة ساخنة بعض الشيء: خيانة من حبيبة كانت – في ظنه – فوق مستوى سقطات البشر، وانهيار غير متوقع من حبيب كان – في تصوري – أصلب من أن تحفر الحوادث موقعاً للأحزان في قلبه. لكنها تدعي أنها بريئة، وطبيعي ألا يصدقها، وطبيعي أن تزعم أن هناك من لفق أشياء وشبه أشياء ونقل أشياء كان لها أثر شبيه بأثر الخيانة في ملابساتها ونتائجها ومرارتها، وطبيعي ألا يصدقها. الحبكة كانت محكمة بشدة، ليس منها بالطبع. إنها حبكة صناع الفيلم الذين نجحوا – حتى الآن – في شغلي عن التفكير في أحزان لم أعد أعبأ كثيراً بها في هذه اللحظة (فبعد انتهاء الفيلم، أو بعد مجيئ لحظة الملل الفارقة التي حذر الناقد في الجريدة منها، سيكون بوسعي العودة إلى الأحزان من جديد، فلم أسمع – للأسف – عن أحزان تطير). الحبكة التي جعلتني أنسى الجو البارد والوخز في عظام ساقي بين اللحظة والأخرى. الحبكة التي نجحت في تكذيب أقوال ناقد محترف في جريدة رصينة. لكن البطلة كان عليها أن تلعب دور الضحية بسبب تلك الحبكة المعقدة

***

فجأة بدأ سيناريو الملل، ولكن ليس بالصورة التي رسمها الناقد.. صحيح أن جو الفيلم قد شدني بوضوح وأنني أفكر مع البطل فيما إذا كانت حبيبته – السابقة – خائنة حقاً، وصحيح أن هذا جعلني أقل تمسكاً برغبتي في الانعزال عن بقية المتفرجين، ولكنني مازلت أود الاختلاء بنفسي لأنني لا أعلم متى بالضبط سيتحول السيناريو إلى الملل والتهافت. لكن ذلك الرجل العجوز يقترب مني، ينزل الدرجات المتوسطة الانحدار المفروشة بالسجاد الأزرق الأنيق في بطئ وترنح، يتجه نحوي مباشرة وكأن صحبة المتفرجين الخلفيين السعداء لم ترق له، إن كان قد أمضى بعض الوقت بينهم فعلاً. غريب أمره.. لماذا يتجه صوبي ولماذا جلس أمامي مباشرة، في الصف الثاني أمام الشاشة، في مكان لا أحد يفكر في الانتقال إليه بينما القاعة شبه خاوية – ربما باستثناء حزين مثلي؟ ولماذا هو أصلاً موجود هنا؟ في هذا الفيلم؟ في تلك القاعة؟ في موعد تلك الحفلة؟ ثم.. لماذا يصدر أصواتاً غريبة عند التنفس؟

من أنت أيها العجوز ولماذا تحاول اختراق خصوصيتي؟ ولماذا لم يحذرني الناقد منك؟؟

***

أظنها لم تخنه. الحبكة قوية ومحكمة للغاية، لكنها لم تنجح معي. وجهها الملائكي لا يمكن أن تقترف صاحبته خيانة من هذا النوع، وحزنها المميت من بعده ليس بحزن ندم على فعل بقدر ما هو حزن ندم على فقد. عموماً علي أن أؤنب نفسي عقب الخروج من القاعة، عقب انتهاء العرض، لأنني – مثله – كنت ممن ساورتهم الشكوك فيها للحظات. ولا أتعجب الآن من شيء – بخلاف الرجل العجوز الغامض الجالس أمامي – بقدر تعجبي من عدم قدرته على أن يرى الحقيقة بوضوح والمفروض فيه أنه أقرب إليها مني. إنها بريئة يا فتى، فلتتنبه قبل أن تفقدها إلى الأبد

***

ياااه، إنه من أصحاب القمصان الزرقاء، من العاملين بالقاعة. لم يكن جالساً مع الناس في الخلف. لكن كيف لم ألاحظ ذلك عندما كانت المشاهد على الشاشة أكثر تفتحاً؟ المفروض أنه من رجال الأمن، ولكن سنه وتهالكه – وصعوبة التنفس المزعجة التي يعاني منها – تشي بأنه لا يستطيع أن يحفظ الأمن حتى في حضانة، فما بالك بحفلة سينما مسائية كهذه

لكن كيف يسمحون له بالجلوس على المقاعد وكأنه من المتفرجين؟ أين أنت يا فتاة التذاكر من ذلك؟؟

***

لأول مرة، منذ بداية الفيلم، ألعن الناقد. هل شاهد هذا الفيلم حقاً أم كان يكتب عن فيلم آخر؟ أو لعله استسهل الأمور وكتب عن الفيلم من وحي الأذن. لكنه صدق في شيء واحد: هذا الفيلم لا يمكن أن ينجح تجارياً لأنه من تيمة مختلفة، حزين ومركب ونهايته غير سعيدة. صحيح أنها لم تحن بعد، ولكنها تقترب، وأكاد أتلمس ملامحها من الآن، قبل نحو ثلث الساعة من الوصول إلى خط النهاية

ولكن ماذا عن أحزاني أنا التي لم أفكر فيها منذ انطفأت الأنوار في القاعة في المرة الأولى؟

***

قام رجل الأمن من مقعده وترنح مرة أخرى بغرابة وهو يصوب أنفه صوب فتحة التهوية الوحيدة، التي توقف الرذاذ عن التدفق منها. لا شك أنه مجنون. لكن ما شأني أنا؟ ما يهمني هو أنه ذهب بعيداً عني ولم يجبرني على تغيير مقعدي الذي طلبته بالاسم تقريباً من فتاة الشباك النحيلة العزباء التي بت أستطيع الآن – في ضوء عزوبيتها والسواد القاتم الذي يغلف ملامحها وملابسها وشاعرية الفيلم التي خلصتني من كثير من الغبار – أن أتفهم سبب عملها حتى وقت دخول المتفرجين إلى الحفلة الأخيرة في اليوم السينمائي في وسط البلد. استنشق ذو القميص الأزرق البالي بعض الهواء وذهب بعيداً. لكن مهلاً: إنه يتجه صوب شاشة العرض نفسها! يا له من مجنون

***

كما توقعت، جاءت النهاية حزينة. كان عليها أن تتخلص من نفسها لتوصل إليه رسالة ومغزى، وأتمنى أن يكون الفتى الصلب الأبله قد فهمهما جيداً. وانتهى العرض

لكن ماذا عنك يا صاحب القميص الأزرق؟ يا عجوز؟ هل ستلمح الدموع في عيني إذا ما اتجهت – مثلك – تجاه الشاشة لأضيع بعض الوقت في خطوات بلهاء كتسكعات الخجلى الهدف منها إضاعة بعض الوقت إلى أن تجف الدمعات في عيني؟

ومهلاً يا عجوز.. هل أتيت لتجلس أمامي لتداري دموعك عن المتفرجين الخلفيين، المشغول أغلبهم بالقبلات وبتحسس بعضهم البعض؟ وكيف تبكي على أحداث أظنك تستطيع أن تراها يومياً؟

***

الرجل مات. عجوز ومرهق ويعمل حتى وقت متأخر من الليل في جو شديد البرودة ويعاني من صعوبة في التنفس، كانت مزعجة. جاء ليشم بعض الهواء، كنوع من الوداع للدنيا ولنسيمها، أو جاء ليستريح لينهض ويؤدي دوره من جديد قبل فتح الأبواب. جلس في المقاعد الأمامية المهجورة – مثلي – ليختفي عن عيني مديره القاسي ذي الشارب الكث. ظلمته، تماماً كما ظلم الفتى فتاته على الشاشة وأودى بها، ولكنني لم أود به ولم أملك ولم أكن لأفعل لو ملكت. ومهلاً يا عجوز، لقد كفرت عن سوء ظني بك بعض الشيء حين كنت – بفضل السائل المتدفق من عيني – من اكتشف أمر موتك. وهكذا أصبحت الدموع في عيني طبيعية ولم أسع لإخفائها عمن جاء ليستوضح أمر وفاة الرجل العجوز

***

في المرة التالية التي دخلت فيها نفس الفيلم اخترت تذكرة تؤهلني للجلوس بين الناس، في منتصف الصفوف طولاً وعرضاً. وأعجبتني نفس الموسيقى التمهيدية لحد ما، أو لعلي وجدت نفسي متسامحاً معها هذه المرة. ولم أشعر بأي رغبة في البكاء في تلك المرة التالية، فالبكاء في المرة الأولى تحقق رغم أنف الناقد. صحيح أنه تحقق لسببين غير ما كنت أظن، ولكن من قال إننا لابد أن نبكي على أنفسنا فقط؟

أما عن فتاة التذاكر النحيلة العزباء الفقيرة القاتمة ذات التقاطيع الجميلة، فقد لمحت دبلة رفيعة في يدها اليمنى، وكم فرحت لها

وشربت المياه الغازية واشتريت المناديل أيضاً

**********

ليست هناك تعليقات: