الجمعة، 11 يوليو 2008

عن حالة الهوس الديني الراهنة

أفضل - في هذه المدونة - استخدام مصطلح "الهوس الديني"، ولا أحبذ استخدام مصطلح "السعار الديني، رغم أن الثاني في تصوري هو الأقدر على توصيف ما أراه سائدا في المجتمع المصري اليوم من تمسح سطحي شديد بقشور الدين وتوافهه وثانوياته وبفكرة التعمق في بحور الدين وفكرة التدين في حد ذاتها كملاذ في نظر غالبية محدودي الثقافة من كل شر وكحل أوحد لكل المشكلات ومن التوسع في اعتماد الدين معيارا وحيدا للحكم على كل الأشخاص والأشياء ولتقييم مدى صلاحيتهم او صلاحيتها للأغراض شتى. ولن أخفيكم أن السبب وراء استخدامي المصطلح الذي أراه أقل قدرة على التعبير في سياقنا هذا، وخصوصا في عنوان هذه المدونة، يرجع بالمقام الأول إلى رغبتي في مراعاة شعور بعض أصدقائي ممن أعلم جيدا ومسبقا أن مثل تلك الصراحة في اختيار مفردات العناوين كثيرا ما تغضبهم مني وتحملهم على التحيز المسبق ضد ما قد يحتويه اي متن أنشره

على أية حال، دعوني أنفذ مباشرة إلى قلب الموضوع الذي أود التفكير فيه بصوت عال معكم هنا. ولتسمحوا لي، مبدئيا، أن أصيغ أطروحتي المرادة هنا في صورة سؤال واحد محوري سأتفرع منه - بالطبع - في الفقرات التالية إلى أسئلة ونقاط أخرى مكملة، والسؤال هو: ما الذي أوصل مصر إلى حالة الهوس الديني المتفاقم هذه التي تكاد ملامحها تقفز في وجهي كلما مشيت بشارع أو شاهدت قناة فضائية أو تصفحت مجلة أو استكشفت عناوين الكتب المعروضة هنا أو هناك؟؟ .. وأظنني لست بحاجة في اللحظة الراهنة إلى مناقشة نفس السؤالين الآخرين اللذين طالما اشتهرت بهما بين من أعرفهم أحادثهم وخصوصا في الفترة الأخيرة، وهما: لماذا انتشر المد الديني من جديد بداية من النصف الثاني من السبعينيات وأين كان الدين قبلها في حياة المصريين ولماذا نسيوه فجأة ثم تذكروه فجأة؟ ثم: لماذا لا نرى انعكاسا حقيقيا للسلوك الديني القويم في حياة من يتبنون قشور الدين ويتمسكون بفتاوى وتعاليم مشايخه الأكثر تشددا ويحاولون فرض أنفسهم علينا كنماذج دينية كاملة متكاملة لابد أن تحتذى؟؟ وكما قلت، فأظنني لست بحاجة حقيقية إلى مناقشة هذين السؤالين الطويلي المتن في هذا المقام لأنني لا أريد فتح أكثر من جبهة في لحظة واحدة ولأنني من المؤمنين لحد كبير بمبدأ التخصص حتى في النقاش

حسنا، دعوني أفكر بشكل عملي سعيا للوصول إلى إجابة أو إجابات مقنعة على هذا السؤال.. ودعونا لا نستسهل الأمور فنقدم نفس الإجابات والأسباب الجاهزة المعلبة: ففي رأيي أن إجابات مثل "إنه الفقر الذي يجبر الناس على الارتماء في أحضان التطرف الديني الذي يمنيهم بحياة أفضل من حياتهم الراهنة"، أو "إنها ظاهرة العائدين من الخليج الذين جلبوا معهم ثقافة البداوة والتزمت الصحراوية العتيدة"، أو "إنه المد الوهابي السعودي والخليجي المدعوم بأرصدة البترول والذي يعبر عن نفسه في صور شتى دبلوماسية وإعلامية واقتصادية يمكن وضعها كلها تحت عنوان واحد هو تنامي نفوذ دول البترو-إسلام" - مثل هذه الإجابات إنما هي إجابات قاصرة في رأيي عن أن تمدنا بصورة عقلية وافية ومقنعة بدرجة كافية لحالة الهوس الديني الراهن التي على المرء معايشتها ومعايشة ناسها ورموزها كل يوم وفي كل مكان في مصر المشهورة تاريخيا بالاعتدال.. وتفنيدا: فالتزمت الزائد والتمسح بقشور الدين من أزياء ومفردات لغوية وقصص ورموز وشخصيات ووقائع تاريخية وأوامر ونواه ثانوية وروايات خيالية لا يمكن أن يصدقها أي شخص يجيد استخدام عقله أو يسعى لذلك حتى مجرد السعي – هذا التزمت وهذا التمسح ما عادا حكرا على الطبقات الفقيرة والدنيا في المجتمع المصري، وأنت إذا زرت أي مركز تسوق كبير في مصر – على سبيل المثال – فإنك قد تلاحظ بسهولة أن زوجة رجل الأعمال خريجة المدارس والكليات الأجنبية وخادمتها الأمية تكادان لا تشتركان معا سوى في شيء واحد هو النقاب أو الخمار ولكن مع اختلاف النوعية والعلامة التجارية بالطبع واللون احيانا. والقول بأن المصريين العائدين من الخليج والذين مازالوا يعملون هناك، وهم في أكثريتهم من فئة من الطبقة الوسطى المصرية تتمتع بمستويات ثقافية وذهنية متوسطة على أحسن الفروض حتى وإن كانت نالت نصيبا معقولا من التعليم النظامي، هؤلاء قد جلبوا معهم إلى مصر ثقافة البداوة التي سرعان ما تأثروا بها بمجرد أن وطأت أقدامهم أراضي بلاد النفط التي أغراهم وأسر ألبابهم كل شيء فيها وذكرهم بسوء أحوالهم وأحوال ذويهم في بلدهم الأصلي – مثل هذا القول ما عاد يصلح لتفسير تنامي المد الديني المتزمت في مجتمعنا تفسيرا دقيقا أو شاملا لأن الدول الخليجية اليوم ما عادت تستقبل نفس العدد من العمال والموظفين المصريين كما كان يحدث قبل حرب الخليج الثانية مثلا ولأن المصريين الذين يسافرون إلى بلاد الخليج اليوم هم في أكثريتهم ممن تغلغلت ثقافة التزمت والسطحية الدينية إلى نفوسهم وتمكنت من عقولهم حتى من قبل أن يسافروا إلى معقل تلك الثقافة، وإن كنت لا أملك بالطبع أن أنكر أن كثيرين من أولئك يعودون من بلاد الحلم النفطي الرقراق وقد اكتسبوا تطرفا فوق تطرفهم الأصلي وسطحية دينية فوق سطحيتهم الأصلية. وأخيرا، فالقول بأن المد الديني المتزمت الذي يفرض نفسه علينا اليوم فرضا هو نتاج لتنامي ما لدول البترو-إسلام من نفوذ وتأثيرات وسعيها بالتالي لفرض ثقافتها - أو هيمنتها الفكرية بقوتها المرنة المزعومة - على الوافدين إليها وعلى محيطها بوجه عام، حتى وإن كانت تلك الدول في حقيقتها مجرد مساحات هامشية من اليابسة لا تتجاوز مساحتها على أي خريطة كبيرة الحجم مساحة إصبع طفل صغير – هذا القول هو أيضا في رأيي ينطوي على غير قليل من المبالغة والتبسيط الزائد للأمور؛ وللتدليل على ذلك يكفيني أن أسوق مثالا بسيطا في هذا السياق: فقد لاحظت أن القنوات الفضائية التي تمعن في نشر ثقافة التطرف والسطحية وكراهية الآخر وحب الخرافة بين المصريين، والقنوات التي تدأب باستمرار وبلا كلل على تشنيف آذان المصريين ببرامج مستمرة على مدار الساعة للرد على أسئلتهم واستفتاءاتهم فيما يتعلق بأمور جد ثانوية وجد سطحية وخرافية، هي قنوات ليست خليجية بالكامل كما كنت أظن ولا هي ممولة بالكامل من عوائد صادرات النفط الخليجي كما كنت أحسب في البداية قبل أن أتمعن في الأمر قليلا وأتابع عن كثب لبعض الوقت. فقناتان مصريتان مثل دريم والمحور، بكل ما لهما من تأثير في المصريين، تدأبان منذ فترة ليست بالقصيرة على تقديم برامج من نفس النوع وعلى نفس الدرجة من السطحية والتشدد وكأننا أمام مشروع إعلامي متكامل شديد القماءة، وبطبيعة الحال فإن تأثير مثل تلك القنوات المصرية على المشاهد المصري يكون أكبر من تأثير القنوات الخليجية لأن المشاهد المصري بطبيعته لا يفقه اللهجات الخليجية كثيرا ما لم يكن قد سبق له السفر إلى إحدى الدول المتكلمة بها ولا يحب الاستماع - في العادة - إلى أي نبرة أو لكنة مختلفة وحادة في الحديث ولا يجد في المناخ المخملي العام السائد في بلاد تلك القنوات ما يشبه واقعه اليومي المعيش وبالتالي لا يجد في ذلك المناخ قدرة إقناعية فائقة، وشخصيا لا أظن أبدا أن قنوات فضائية مثل دريم والمحور تفعل ذلك رغبة منها في مسايرة وتقليد القنوات الخليجية مثل اقرأ والناس بقدر ما تفعله إيمانا من القائمين عليها بأن تثقيف المصريين بأفضل طرق العلاج بالقرآن وبالحجامة وبأساليب إخراج الجن من الأظافر وبالقدم المفضلة للدخول إلى الحمام وباسم الصحابي الذي كان ترتيب دخوله في الإسلام هو التاسع بعد المائة من الرجال – تثقيف المصريين بكل تلك التفاهات إنما هو في رأيهم رسالة إعلامية مثالية سامية ومهمة دينية جليلة سيجزون عليها خير الجزاء في العالم الآخر، وتكفيني الإشارة إلى مالك قناة المحور وهو رجل صناعة أسمنت ثري ومن كبار محتكري سوقه ولكنه كثيرا ما يظهر على شاشة قناته الخاصة ليعظ ويقدم الدروس الدينية المجانية التي لا أظنه أهل لتقديمها إلا لجمهور من المسطحين

إذن فلابد أن تكون ثمة أسباب أخرى جديدة أو مستحدثة بخلاف، أو فضلا عن، الأسباب الثلاثة التي عرضت لها أعلاه. فماذا عساها تكون تلك الأسباب؟

هل يتعلق الأمر – مثلا – بانتشار الإنترنت وقدرة أعداد متزايدة من المصريين (وخاصة من المنتمين إلى الطبقات الدنيا) على الولوج إلى الشبكة والاشتراك في منتدياتها وشبكاتها الاجتماعية التي كثيرا ما تكون ساحات خصبة لنشر ثقافة التطرف والتمسح بالقشور والنظر بعنصرية إلى كل أصحاب المعتقدات الأخرى؟ ما هو دور الإنترنت في تنامي حالة الهوس الديني تلك التي أوصلتنا إلى أن أصبحت نسبة النساء المنتقبات في شوارعنا الأعلى في أي دولة عربية أو إسلامية خارج أفغانستان والباكستان والخليج العربي؟ أظن هذا السبب المقترح يستحق مزيدا من التحليل والتأمل، ولكنني في هذا المقام أكتفي بعرضه دون مناقشته مناقشة وافية ليس فقط لضيق المقام والوقت، ولكن كذلك لأنني لست من العالمين ببواطن الأمور على شبكات ومنتديات المواقع الإسلامية وبالتالي فإن دلوي في هذا الموضوع لن يكون ممتلئا أو تفصيليا بما يكفي لصياغة رأي رصين، ومن ثم فإنني أترك تلك المهمة لأحد الأصدقاء الأكثر دراية مني بتلك البواطن

ثم، إلى أي مدى يمكننا القول إن للأمر علاقة بالحرب الأمريكية الجائرة والكاذبة على الإرهاب؟ إلى أي مدى أثارت تلك الحرب مشاعر التطرف لدى البعض ومشاعر الحمية الحماسية في الدفاع عن الدين والجهاد ضد أعدائه؟ وهل يمكننا الجزم بما إذا كانت الحرب على الإرهاب (وهي حرب من أجل النفط في حقيقتها كما أظن) هي التي أشعلت مشاعر الحمية الدينية في نفوس الشباب المسلم المحدود الثقافة، ولأي مدى يمكننا القول إن تلك المشاعر كانت قائمة ومشتعلة أصلا وبدرجة لا تقل عنها اليوم حتى من قبل أحداث سبتمبر وغزوته الإسلامية الكريهة؟ وإذا كان ذلك كذلك، كما يقولون في العلوم الشرعية، فلماذا توقف الجهاد ضد الأمريكيين على أراضيهم وخارجها في العالم كله بينما فصول حربها المستعرة على الإرهاب مستمرة بلا توقف ولماذا لم يعد الجهاد الديني ضد القطب الأمريكي المتوحش يتم إلا في البلدين الإسلاميين الوحيدين اللذين يحتلهما الأمريكيون رسميا او ضمنيا: العراق وأفغانستان؟؟

ثم ماذا عن قائمة الأسباب المقترحة التالية: غياب فكرة المشروع القومي، أو الحلم، الذي يجتمع الكل حوله وعليه – تهاون الحكومة النسبي في مواجهة حركات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الأخوان – الفساد والاستبداد اللذان يمثلهما نظام الحكم المصري خير تمثيل واللذان دفعا السواد الأعظم من الناس إلى الاستعداد لتبني والدفاع عن أي بديل مهما كان متطرفا أو جاهلا – شعور الناس بالانهزام على المستوى الجمعي وبالبعد الكامل عن أي مفهوم أو مستوى للمثالية مما يدفعهم تلقائيا إلى الارتماء في أحضان التزمت والقشريات الدينية لدرء الشبهات عن أنفسهم ولمحاولة الظهور أمام أنفسهم وأمام الآخرين وكأنهم أصحاب مشروع (ديني)، على أي حال – الظروف الاقتصادية السيئة وتأخر سن الزواج وارتفاع البطالة والتضخم الخ الخ (وإن كنت أرى أن ذلك كله قد يولد - مثلا - ظاهرة الحجاب ويفاقمها ولكن ليس النقاب) – الاستقطاب السياسي المتبادل بين الحكومة والجماعة المحظورة والجماعات المتأسلمة التي على شاكلتها وسعي تلك الجماعات لاستعراض القوة أمام الحكومة وحشودها وأجهزتها الأمنية وكأن الحركات المتأسلمة تقول للحكومة إنها إذا كانت تملك الجبروت الأمني في أبشع صوره فإنها – أي الحركات المتاسلمة – تملك الشارع برمته (برؤوس نسائه ووجوههم المحجوبة ولافتاته التجارية والانتخابية المعلقة هنا وهناك ذات الشعارات الدينية الرنانة الفارغة وأسماء محلاته ومتاجره ذات الإسقاطات الدينية المضحكة مثل "الحرمين الشريفين لإصلاح الساعات" أو "بقالة الصحابة"، وصولا إلى بائع البخور والشرائط الدينية المتجول الذي يليس القفطان القصير الذي يظهر شعر ساقه في سعي - ظني - منه للتعفف وتوفير القماش الذي لن يأخذه معه إلى القبر وإلا فسيكون مبذرا مترفا وبالتالي فإن الثعبان الأقرع سيكون في انتظاره ليصفي حسابه المستحق معه) – الخ الخ الخ ؟؟؟

القائمة يمكن أن تكون أطول بكثير وهذه كلها أسباب محتملة ولا يمكن أن يخلو منها أي تحليل موضوعي أو شامل للظاهرة. وإذا وضعنا هذه الأسباب كلها معا، إلى جانب الأسباب الثلاثة الأصلية أو "المعلبة"، فقد تتضح الصورة أمامنا لحد كبير ونستطيع استجلاء الكثير من معالمها على نحو كاشف. لكن هذه الأسباب كلها، في رأيي، هي أسباب ثانوية أو مظهرية، أو بالأحرى هي تجليات خارجية لسبب محوري أعمق وأعقد مستتر وضمني لحد كبير وأكاد أجزم الآن أكثر من أي وقت مضى أنه المحرك الكامن الرئيسي لموجة التطرف الجهالي الراهنة ولكل آفاتنا ومقومات تخلفنا ومظاهره الأخرى المترتبة عليها: إنه تردي النظام التعليمي المصري لأقصى الدرجات التي حتى قد لا يمكن تخيلها في أسوأ كوابيس التربويين ورجال التعليم. وبكل بساطة أقول خلاصة رأيي في الأمر كله: بدون نظام تعليمي جيد قادر على تعليم تلاميذه مهارات التفكير والنقد والتحليل والربط بين الأجزاء المتناثرة للمشكلة أو القضية الواحدة، وبدون مدرس مثقف ومتفهم ومرن ومتدرب، وبدون إدارة مدرسية واعية ومتفتحة ومناهج تعليمية اكثر حداثة وعقلانية وأساليب امتحان وتقييم وتقويم أكثر ابتكارا وأشد تركيزا على قياس مهارات النقد والتحليل وليس الحفظ والاسترجاع – بدون هذا كله لا تستغربوا أبدا إذا رأيتموهم في مصر في لحظة ما من المستقبل – قريبه أو بعيده – يحفرون للناس الحفر في الأرض ويدفنونهم فيها حتى الرأس ثم يرجمونها بالصخور لأنها تجرأت وخرجت بدون أمر زوجها أو لأنه تجرأ وارتدى قفطانا طويل الذيل

وختاما، أظننا مطالبين بالسعي فورا نحو تطوير نظامنا التعليمي برمته لأن الأوضاع في الواقع لا تتحمل مزيدا من التردي ولأن استمرار الحال على ما هو عليه معناه تحول مصر إلى أفغانستان جديدة في يوم من الأيام، حتى وإن على مقياس نسبي. ولكن هل الأوضاع السائدة الآن توحي بأن شيئا من هذا القبيل يمكن أن يتم، على الأقل في عصرنا؟ .. للأسف، أشك

ليست هناك تعليقات: