الاثنين، 14 يوليو 2008

A diary

الساعة الثامنة

------------

صحوت من نوم خفيف ومتقطع شاعراً بأن شيئاً ما قد فاتني، وراغباً – على غير عادتي في أيام الانشغال – في إمضاء بقية اليوم على الفراش لتعويض جسدي عن حالة الإرهاق التي أعانيها جراء العمل المتواصل في الأيام الثلاثة الماضية وجراء نوم الليلة المنصرمة غير السلس، وجراء القلق الذي أشعر به والحيرة التي تغلفه وتصاحبه. تناولت إفطاراً تقليدياً وتمنيت لو كانت جرائد الصباح موجودة أمامي في تلك اللحظة لأطالع فيها أخباراً خفيفة من أي نوع قد تنعشني وتفتح شهيتي على الأشياء

الساعة العاشرة

-------------

بعد ساعة ونصف الساعة من العمل المتواصل الذي تحتم علي فيه التنقل باستمرار بين الكتابة على الورق والنقر على لوحة المفاتيح، شعرت بملل وتعب متصاعدين بالتزامن مع بدء شعوري بالثقة في إمكانية إنجاز ما تبقى من ذلك العمل العاجل قبل موعد تسليمه المحدد. وبعد تردد لم يطل كثيراً فتحت قناة الأغاني وشاهدت بعض الكليبات الصباحية الخفيفة التي للأسف لم يكن من بينها كليب هدى حداد الجديد الذي يعجبني أنا وحدي على ما يبدو

الساعة الثانية عشرة

------------------

كم أحب تجارب عمل المهام اليدوية بيدي أنا، أو شغل الصنايعية الذي يجب أن أتركه لأهله كما تقول أمي.. دهنت شباك غرفتي من الداخل باللون الأبيض، وبالبقية اللزجة المتبقية في علبة الدهان أضفت بعض الرتوش هنا وهناك، وفي النهاية شعرت بأنها ما كان لها أي داع. يبدو، على أي حال، أن الدهان الذي استخدمته غير قوي بالدرجة الكافية ولن يصمد كثيراً أمام عوامل التعرية، فلم أحتج إلى كثير من الصابون لإزالة آثاره من على أصابعي. لكن المهم أنني أنجزت مهمة كانت لازمة منذ تركيب الحديد على الشباك، وأنني غيرت أجوائي لحد ما

الساعة الثانية

------------

أنا الآن في الشارع، أرسل رسالة فاكس إلى الخارج، لتتويج – أو بالأحرى: لإنهاء – عمل استمر لأكثر من أسبوعين، وهو تتويج – إو إنهاء – لابد له من إرسال مادي، بالورق، لا إلكتروني. اكتشفت أن أسعار إرسال الفاكسات إلى الدول العربية قد زادت دونما إشعار، شأنها في ذلك شأن أسعار معظم الأشياء مؤخراً. وهاتفت صديقة غالية، ثم هاتفني صديق غال، ثم اشتريت طعاماً للبيت وعدت به ساخناً – وهل يمكن أن يبرد شيء في جو كهذا؟ وبالمناسبة، مازال نفس الشعور بالقلق والانقباض يراودني أحياناً ويتملكني أحياناً أخرى، ومازلت أتمنى لو مرت الأيام بأسرع من معدلها الحالي لأرتاح منه بأي شكل

الساعة الرابعة

-------------

عودة جديدة إلى نفس العمل الذي تصورت في الصباح أنني كدت أنتهي منه أو وصلت فيه إلى النقطة التي لن أحتاج بعدها لإتمامه إلى نفس مجهود الأيام الأخيرة. المهمة المطلوبة الآن في سياقه تتصل بالنقر على لوحة المفاتيح فحسب دونما نقش بدائي على الورق، والحق أن هذا يضايقني كثيراً، وبالذات الآن، لأنه لا يفلح في أن يشغل فكري عن الأشياء الجانبية والمحتملة بالقدر الكافي. لكنني اكتشفت عدداً من الغلطات النحوية في أوراقي الصباحية أظنني لم أرتكبه منذ نعومة أظافري، والأخطاء النحوية لا تحدث عندي – عادة – إلا وأنا في مثل حالة الشك والتربص الراهنة التي أجتازها. المهم أنني وجدت فرصة إضافية لمدح قراري القديم بعدم إرسال أي شيء يخصني لينقره آخرون لي على لوحات مفاتيحهم لأن أولئك الآخرين لن يكتشفوا مثل تلك الغلطات أبداً ولن يملكوا أو يمارسوا الحق في تصحيحها بثقة، أو كما قال صديق عمري الحزين في هذه الأيام: إزاي تخلي واحدة معاها دبلوم قاعدة على مكتب بتمضغ لبانة بطريقة مستفزة وقالعة جزمتها وهي قاعدة تشتغل بس جاهزة تلبسها في أي لحظة ومتعرفش الفرق بين إن وأن تعمللك شغل التايبينج؟ صدقت يا عزيزي. لكنني وجدت فرصة لتأنيب نفسي على قراري بعدم إجراء الترجمات ذات الطابع الإبداعي على لوحة المفاتيح منذ البداية بدلاً من الاضطرار لنقلها من الورق إلى الشاشة في خطوة عديمة القيمة المضافة

الساعة السادسة

--------------

موعد مجيئ حبيبة قلبي الصغيرة وأسرتها الجميلة اقترب بشدة، والشوق إليها وإليهم في تصاعد مستمر. الفترة التي سيمكثونها هنا لن تكون طويلة بأي حال، لكن تكفي رؤيتهم في حد ذاتها ويكفي عناقهم ومسامرتهم، ويكفي تقبيلها والاستماع لانتقاداتها الطفولية البريئة التي طالما أثلجت صدري عبر الأثير الإلكتروني. تذكر: التجارب الإنسانية تقاس دائماً بعمقها، لا بطولها. وبعد رحيلهم من جديد سيكون هناك حديث آخر عن وفي أشياء أخرى

الساعة الثامنة

------------

شقة مصر الجديدة، شاهدته كاملاً للمرة الثالثة في أقل من ثلاثة أيام. جميل، هادئ، هادف، رومانسي، مختلف عما يعاصره، وإثبات جدارة حقيقي لبطلته الجميلة التي مازلت لا أستطيع أن أصدق أنها الآن أم لخمسة من الأطفال. أما محمد خان المبدع فمازال قادراً على إثارة دهشتنا بقدرته الفذة على التعبير عن الأحداث من زوايا غير مطروقة ولا متوقعة، ولا إظهار الحميمية حتى في أكثر المشاهد صخباً وتنفيراً. كم أستغرب أنه ليس مصرياً بالولادة، وكم أستغرب أنه مازال كذلك من حيث بطاقة الهوية وجواز السفر

الساعة العاشرة

-------------

ترجمة، ترجمة، ترجمة. ملف العدد دائماً يأخذ وقتاً غير متناسب مع طوله الحقيقي ودائماً ما يجور على حق مهام عمل أخرى في الانتظار. ثمة مهام كثيرة تعطلت وتراكمت بسببه وبسبب مزاجي السلبي في الآونة الأخيرة، وثمة أفكار كثيرة لم أحفظها بعد من احتمال الهرب إلى الأبد، وثمة أصدقاء كثيرون غاضبون لتقاعسي عن إرسال مقالات ما أو عن الظهور والسؤال بشكل اجتماعي أكثر حميمية وأكثر تناسباً مع مقدار الصداقة الضمني المثبت. لكن عذراً يا أفكاري ويا أصدقائي وعذرا كذلك يا محرر صفحة الرأي يا من طلبت مقالة عن إيران التي لا أعرف لماذا تطلب مني أنا بالذات مقالات عنها، عذراً لكم جميعاً.. أنا عائد.. فقط أقتنص لذة اللقاء بالقادمين الأحباء من الخارج، ثم أعرف مصير أو نتيجة شيء ما، وفي كل الأحوال سأعود بعد ذلك، وأظنني سأعود كما كنت

الساعة الثانية عشرة

------------------

مكالمة مع صديقي الحبيب الذي يعمل بالخارج.. اتصلت به مواسياً. ما أقسى أن تنتهي علاقات الحب وارتباطاته الرسمية ببساطة هكذا قبل أن تبدأ فعلياً أو مادياً. أو لعلني أتصلت لأسأل عنه في ما أراه محنة ولأشعره بأنني معه حتى وإن غاب عني جغرافياً وإلكترونياً. غريبة أن نواسي أعز الناس في وفاة حب لم يبلغ الرشد بعد، لكن ما أكثر غرائب تجاربنا الحياتية

الساعة الثانية

-----------

أنشر هذه المدونة عديمة القيمة، لأواصل العمل من جديد بعد أن نلت قسطاً من الراحة أثناء كتابتها – ويا للعجب. يومي الحقيقي دائماً يبدأ الآن، بعد أن يكون الكل حولي في طور النوم الأول

الجمعة، 11 يوليو 2008

في المنتصف..

هكذا أكون انتهيت من وضع بعض مدوناتي السابقة التي نشرتها من قبل بالفعل عبر الفايسبوك، وكذلك وضعت عملاً واحداً فحسب من أعمال مجموعتي الوحيدة المنشورة حتى الآن ضمن مطبوعات هيئة قصور الثقافة قبل أربعة أعوام

وفي الفترة القادمة، سأضع بقية أعمال تلك المجموعة الكاملة، أو أغلبها على الأقل

وسأضع كذلك بعض الأعمال الأخرى المنشورة عبر فضاءات أخرى غير الفايسبوك، ولاسيما الصحف. لكن، بالطبع، لن أضع أياً من مقالات الرأي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لأن نشرها يكون مرتبطاً بحوادث أو تطورات ما انقضت. سأكتفي بوضع الأعمال ذات الصفة الإبداعية، أو المطلقة

وأخيراً، سأضع بعض الأعمال الخاصة التي كنت أحتفظ بها لنفسي

وفي الأخير، سأبدأ في تدوين يومياتي هنا، كلما كان بأيامي ما يستحق أن يُدون أو أن أنفعل به لدرجة التوثيق والحفر الإلكتروني

فقط أريد بعض الوقت لإثراء هذه المدونة

ظروف غير مواتية

الشمس لم تشرق في ذلك اليوم
أو لعل نورها احتجب وراء غيوم يناير الكثيفة
النهار صار – فجأة – ظلمة كئيبة
والفجر الذي لاح لم يكن سوى فجر كاذب
الناس تململت في البداية، وتحسرت على يوم ضائع
لكن عندما انمهر المطر من بين فتحات السحب،
لم يجد الناس بدا من التعايش مع يوم شتوي قاس
الكل راح يؤدي ما عليه أداؤه
والكل نسي – أو تناسى – أمر الصباح الذي لم تشرق شمسه

***

لم يعد على رصيف المحطة غيري أنا
أنا وحقائبي التي ملئتها بكل ما ظننتني سأحتاجه هناك
في بلاد الغرباء
القطار أتي في موعده، وأنا كنت واقفا في انتظاره
فلماذا لم أصعد الدرجتين الوحيدتين اللتين تفصلانني عن بلاد الغرباء؟
هل خفت؟
ولماذا ترددت؟
القطار غادر، على أي حال، ولاشك أن قطارا آخر سيأتي من بعده
ولكن.. هل سأصعد درجتيه؟

***

وطنك لم يعد وطنك
صرت فيه غريبا، وصار يأكل أبناءه
صار يستهزئ بهم ويستلذ عذابهم
الناس في وطنك صاروا جزرا منعزلة، تفصل حواجز الكآبة والاغتراب بينها
الظروف ما عادت مواتية في وطنك
والحزن صار يكسي كل الأشياء والوجوه
حتى الشمس لم تعد تشرق عليه في الصباح
الأمل مفقود، فلماذا مازلت تصر على البقاء فيه؟

***

أهز رأسي من أعلى لأسفل
أوافقكم القول
وطننا لم يعد وطننا
صار مستوطنة للفساد والفاسدين
صرت أشعر فيه بمرارة الغربة،
حتى وأنا بين أصدقائي أو وسط أهلي
حقا.. الظروف ما عادت مواتية
الجميع يغادر، ويقال إن من سيبقون في النهاية هم الأخسرون
أو هم السذج الذين لا يتعلمون من تجارب الآخرين
ولكن كيف لي بالرحيل إلى وطن الغرباء الذي يقطر لبنا وعسلا؟
وكيف أجبر نفسي على المغادرة؟؟

***

سأفتقد – إن رحلت – وجوه الناس البسطاء
صحيح أن أكثر الوجوه هنا وجوه مكفهرة، ولامبالية، ولكنها وجوه بسيطة على أي حال
سأفتقد – إن رحلت – مكان اللقاء الأثير مع الحبيبة ومع الأصدقاء
هل في بلاد الغرباء مكان كنفس مكاني العتيد الذي أعرفه ويعرفني؟
وأين سأجد الأصدقاء الحقيقيين؟؟
صحيح أن معظمهم غادر بالفعل وآثر ألا يكون من الأخسرين
ولكن أليس من تبقوا أصدقاء أيضا؟
ثم.. ألا يستحق الوطن فرصة أخرى؟
هل يمكن التضحية به بهذه السهولة؟
هل يمكن التنصل منه؟
وهل الوطن هو مكان، أم زمان، أم أفراد، أم كيان؟
.. والأهم الآن: هل أغادر في القطار التالي؟
ها هي أدخنته تلوح من وراء الغيوم
أتى وقد غسله المطر ونقاه، وكأنه يحتفل برحيل من سيرحلون فيه
لم يأت في موعده
بل جاء – على غير العادة - مبكرا عن موعده بعض الشيء
وكأنه يضاعف الضغوط علي ويضيق الخناق حولي
فهل أستقله؟ هل أصعد درجتيه الفاصلتين؟؟

***

الغيوم – أخيرا – انقشعت
والمطر توقف عن الانهمار
رصيف المحطة اكتظ بالمسافرين من جديد
الكل كان منشغلا بمواعيد القطارات التالية
الكل كان همه الرحيل، إلى بلاد الغرباء، إلى بلاد اللبن والعسل والحور العين
ووحدي أنا تطلعت للسماء، ممنيا نفسي برؤية ما تبقى من شعاع الشمس
ولكن.... أين ذهب الشعاع؟؟

***

الليل أتى قبل موعده!!
أو لعل احتجاب الشمس طال أكثر مما يجب
كل شيء صار يمر بأسرع مما نتصور في وطني، حتى الأشياء الكريهة فقدت جلالها!
صدقوا – إذن – إذ قالوا: إن الظروف ما عادت مواتية

***

"أريد تذكرة أخرى، لو سمحت

مزاد

ياللا تعالي والحق.. فرصة
عندنا أحلى مزاد يا أخينا
مش بنبيع دايو ولا كورسا
ولا فيللا ولا شاليه في مارينا
بنبيع دولة بكل ما فيها
من أسوان ولغاية سينا
والكل من حقه يشارك
في مزادنا ويتعرف بينا
يعني إذا كنت يهودي اتفضل
أو حتى خواجة رجع لأثينا
بس يا حلو تتقل جيبك
وأوعاك بس تفاصل فينا
وعشان نرتاح بنقول بصراحة
ده مزاد عالي وفل وزينة
يعني نظام الفكة تسيبه
وأساتك ملايين ورينا
وكمان لاحظ حاجة مهمة
مزادنا سريع قوي يا أفندينا
قبل ما يعقل ياللا نبيعه
شعب المحروسة ويشوينا
***
ألا أونه.. ألا دوو.. ألا تريه
بعنا هرمك.. بعنا نيلك.. وشفنا الشاري مين
ما كل شيء بثمن يا حبيبي
حتى ضميرك.. وشرف مامتك.. وضفاير الحلوين
وكمان بعنا شهامة المصري
وأخلاق القرية.. والنكتة إياها بتاعت الميلامين
ولو ذاكرتك جامدة نقوللك
إننا برضه بعنا فطوطة.. والخاطبة.. وهناء وشيرين
وبسكوت بيمبو اتباع بالمرة
وتمثال عرابي.. والمنشية.. وبوكلة وراس التين
وبعنا الغاز لجيراننا البعدا
عشان دباباتهم تفرم في الفلسطينيين
وتوت عنخ آمون بعناه
والتوت والنبوت.. والعار.. واللمبي.. ويوسف شاهين
وبهاء طاهر ويحيي الطاهر
وتوفيق الحكيم وخيري شلبي وصنع الله وصلاح جاهين
أما حليم والست وفوزي
فحاولنا نبيعهم بس يا خسارة طلعوا أصلا متباعين
بس بلاش تزعل وتهنج
عندنا لسه شادية وفوزي ومحيي وتامر وشيرين
وخلاص مش فاضل م الدولة
غير حبة خردة تعبانة.. وكام استوديو.. والمثقفين
ومن البنوك والقطاع العام
بعنا شوية لأخوة صهاينة والباقي للإيطاليين
وإيراد البيع اتحول بره
على مقار العصابة في سويسرا وقبرص وأبردين
***
ليه يا أخينا بتبص دايما
للنص الفاضي والكآبة والضلمة
مصر احلوت لما اتفضت
من كل الدوشة والزحمة
دلوقتي اللي اتبقوا بياكلوا
نجرسكو ومشروم جنب اللحمة
أما اللي اتباعوا فزمانهم
مجلودين بره من غير رحمة
سواء في مكتب في الظهران
أو في دبي في شركة مساهمة
شعب اتحول كله عبيد
طب إيه يعني؟ بطل لخمة
أيام بتدول وبتتدور
ومسيرك ف يوم تهبرلك عكمة

وتبدأ رحلة البحث عن الشاطئ التالي

رمال.. رمال
بصمات أقدام هنا وهناك
بصمة لامرأة في حالة حب
وأخرى لشابة في طهر الملاك
وبصمة قدم شاب سعيد، كبيرة ومحفورة بالكاد
أليس السعداء قادرين على الطيران؟

في كل مكان على الشاطئ بصمات أقدام
وضاربة الودع واقفة هناك، خلف النافورة
ضاربة الودع العجوز تستعد لمزاولة مهنتها الشاقة
ما عاد أحد يسعى إليها لتقرأ له طالعه
ما عادت الفتيات مفتونات بها وبأخبارها عن الحب والزواج
ما عاد الرجال يتحينون الفرص ليسألوها عن مستقبلهم المهني
صارت تجوب الشاطئ طوال النهار حتى تتورم قدماها
تلح وتلح كمندوب مبيعات يحمل بضاعة بائرة
ورواد الشواطئ لا يظهرون أي انفعال
وإذا نجحت في النهاية في جذب زبون واحد
فسرعان ما تنهره زوجته، أو يحدث العكس
أليست قراءة الطالع ضرباً من الكفر؟

اقتربت المرأة من الجموع
هل كانت تلمع في عينها الدموع؟
أم تراها لمعة ذكاء باق من أيام الصبا؟
على أي، ها هي تحاول جذب الأنظار
تنادي على بضاعتها بصوت الغجرية الغامض
نبين زين نبين ونضرب الودع ونشوف
الكل تطلع إليها في خوف
ماذا عساك تعرفين يا عجوز؟
ولماذا علينا أن ندفع لك المال لنعرفه؟
أليس دوران الأيام كفيلاً بأن يرينا كل شيء تخفينه أنت عمن لا يدفعون؟

الشمس مالت نحو مغربها
وغلة اليوم مع العجوز لا تضمن حتى الكفاف
حتى ضاربة الودع باتت من العوز تخاف
قديماً خدعوها إذ قالوا لها إن مهنتها مضمونة النجاح في كل العصور
أليس الناس دائماً مشغولين بالغد ومحبين لسماع الأخبار التي تبعث على السرور؟
فما بالهم اليوم تغيروا حتى صاروا لا يأبهون بها وبنداءاتها؟
هل صاروا أكثر لا مبالاة؟
أكثر رشداً؟
أم أكثر بخلاً؟

فجأة تضاعف اللمعان في عيني العجوز
لابد أن فكرة جديدة قد واتتها
أو لعلها فكرة جربتها من قبل وتكررها على فترات متباعدة
بصوت جهوري رخيم نادت: يا قوم، من صاحب هذه البصمة؟؟؟؟؟
ارتج الشاطئ لندائها وتوقف بغتة نشاط الجموع
الكل يريد أن يدفع الآن لها ليعرف منها ماذا سيحدث لصاحب البصمة
الكل خاف أن يكون هو صاحب البصمة
لا أحد ظن خيراً بما سيحدث لصاحب البصمة

اقترب أحدهم واستطلع البصمة، ثم حاول قياس قدمه عليها
ثم آخر تلو آخر، وأخرى تلو أخرى
الكل اصطف في طابور طويل
واندلعت مشادات كلامية رجالية ونسائية
أهي مسابقة سندريللا شاطئية؟
حسنا يا امرأة، أياً كان صاحب البصمة، فماذا عساه حادث له؟

بتهكم قالت: هكذا ببساطة؟؟ ادفعوا اولاً لتعرفوا طالعكم
الكل دفع والقلق يعتصره
دفعوا أكثر مما يجب، وحقيبة نقود المرأة امتلأت عن آخرها
وبدأت تفكر: أحقاً يجب أن أزاول العمل في اليومين القادمين؟

قالت لهم نفس كلامها المعتاد
الكلام الذي حفظته عن أمها وجدتها
وأضافت بعض التوابل على كلامها
نجحت بذلك في إقناع الجميع ببصيرتها النافذة التي بها لفتت البصمة نظرها
العجيب أنها قالت نفس الطالع لعشرات الشخوص في وقت واحد
أتملك ضاربة الودع قدرات تنويم مغناطيسي إضافية؟؟؟
أم أن زبائنها باتوا أكثر سذاجة وسطحية؟
والأهم الآن: أين ستقرأ الطالع في المرة القادمة؟
وماذا إذا تكررت بعض الوجوه؟

تساؤلات إلى شاري الأيام

الصيف لملم أوراقه ورحل في هدوء
هل لفحتني شمسه الحارقة هذا الموسم؟
لست أكيداً
ومتى كنت من أي شيء أكيداً؟
وهل يهمني إن كانت لفحتني حقاً؟
لا أبالي مادمت منتظراً في المقهي بلا حراك
لم نسمع في المدن عن لفحة شمس سببت الهلاك

ها هو الخريف اقترب
وازدهار الغصون سيغترب
أو لعله بدأ الاغتراب بالفعل
الأوراق تتساقط وأيام العمر تهرول مسرعة باتجاه الهوة المحتومة
العمر يبدو أحياناً لحظة واحدة مقسومة شطرين
الأول للانتظار والملل، والثاني للدموع تترقرق من العينين
أدموع فرح أم دموع حزن؟
دموع استقبال أم دموع وداع؟
الشطر بدوره مقسوم شطرين
وأنا الآن في شطر الانتظار ونصف شطر دموع الحزن
يا له من توصيف معقد

الرياح الشمالية هي الأعتى دائماً، هكذا يقولون
وأنا أسكن في الشمال، والشمال يسكنني
أطل على البحر من نافذة مقهاي المفضل على الدوام
وكثيراً ما أخرج لأفترش الرصيف بمقعد وثير ومنضدة وحيدة
الرياح الباردة تلطم الوجه، ورمال البحر تؤلم الجبهة
والمارة يتساءلون عن سر شجاعتي، أو بلاهتي، في همس
لا أحد يجرؤ على افتراش الرصيف في شتاء الإسكندرية
ولا أحد يجرؤ على مواجهة رذاذ موج البحر بصدر شبه عار

كيف أتى الشتاء والخريف لما ينته بعد؟
هل تنازل فصل لفصل عن حصته من أيام حياة البشر؟
وهل بوسع الأخيرين أن يتنازلوا لبعضهم بعضاً عن أيام حياتهم؟
عن مقدراتهم؟ تجاربهم؟ أفراحهم؟ وتعاساتهم؟
ألا يبيع البعض أبناءه هذه الأيام؟
فماذا عن الأيام نفسها؟
أبوسعنا حقاً أن نبيع أنصاف أعمارنا لنرى من نحب ولو للحظة؟
ومن الشاري في تلك الحال؟ وماذا عساه فاعل برصيده الضخم من الأيام؟
لا شك أنه سيحقق كل أمنياته، التي هي أمنيات الآخرين أصلاً
لكن.. ألن يصيبه الملل في النهاية؟

السفينة لاحت لي أخيراً
الأرض كروية حقاً، فقد رأيت صاريها أولاً
ثم لاح هيكلها كاملاً
هل جاء فيها من أنتظر؟
هل حجز شاغلي تذكرته هذه المرة؟

!!!!!!!
لا أحد يسافر على متون السفن هذه الأيام
لا أحد، سوى البضائع والحجيج والفقراء
يبدو فعلاً أنني صرت أعيش عالماً غير الذي يعيشه الناس
كيف فاتني أن السفن، كالخطابات، انقرضت أو هي على وشك ذلك؟

ربما يأتي مواعدي في الخريف القادم
هكذا سأمني نفسي.. علي أن أفعل ذلك
الأمنيات هي بنات عقولنا التي نربيها وندللها لتخفف عنا وطأة الفشل، صحيح؟
ولكن لماذا على من قد يأتي ألا يأتي إلا في الخريف؟
ألنبدأ عاماً جديداً بعد انقضاء الخريف، أم لننهي ما لم يبدأ من الأساس؟

المارة من حولي يتكاثرون واندهاشهم يتضاعف
لابد أن أدخل إلى المقهي من جديد
على الأقل لأتقي البرد القارس، ثم أعينهم المتطفلة

واحد ينسون لو سمحت
آه، ولن أنسى أن أنتظر في مقهى المطار في المرة التالية

فوضى.. ولكن

في مرة بصحى من نومي فايق
مع ان نومي بيكون دقايق
وألاقي نفسي فرحان بنفسي
وأنزل سعيد وأنيق وعايق

وفي مرة بصحى ألاقيني هايم
وحزين وشايل الهم فوقي
وأحاول أهرب من اكتئابي
واقول لعيني بلاش تفوقي

وغريبة اني عمري ما بقدر أفهم
ليه بفرح يا دنيا اني منسوب إليكي
وليه بعد لحظة بحس اني عالة
وأقول ايه بس فايدة وجود روحي فيكي

وساعات بحس ان وطني احتواني
وبأن ترابه ملكي ومكاني
وساعات بحس انه ظالم وخاين
وأنزل أدورلي على وطن تاني

***

وساعات بلاقي الفرح في بسمة
وفي وردة بتغازلها نسمة
أو في دفايا في وسط لمة
أو في مكان فرحت فيه

وساعات بشوف الدنيا ضلمة
والناس جحودة وقاسية وظالمة
وما حد فيهم فاهملي كلمة
ولا حد فيهم أسند عليه

وساعات أحب الناس والزحمة
وساعات أبقى بهرب من الكلام ده
وساعات ألاقي في كلمة آلمة
دوا وبلسم بحتاج إليه

وف كل حالة من الحالات دي
بحس ان ديا مش هي حالتي
واني بعيش بنص طاقتي
وباقي كياني ضيعته ليه

وأمشي ف شوارع مليانة ناس
فيهم اللي بيسمع ليا بحماس
وفيهم اللي قلبه زي الرصاص
والأغرب اني بنشد ليه

***

وأشوف القريب مني بعيد
وأشوف في حلمي الفرح أكيد
وأحاول وأحاول لحد ما أوصل
لحلمي ولكن بكون مش سعيد

وساعات في نومي بحلم بدنيا
لا فيها ناس ولا هي فانية
وليالي بحلم بناس ودوشة
وأتمنى أجرب الموت لثانية

وساعات بشوف كوابيس في نومي
ووحوش بتنهش لحمي وهدومي
وطفل بيخاف من صدر أمه
وشمس كاسفة بشكل يومي

وليالي بحلم بحاجات جميلة
وكل محتاج لاقي الوسيلة
وبنور غامرني وجمال آسرني
وف لحظة بقدر أعيش ألف ليلة

وف كل ليلة أنام وأمدد
وأعد أحلامي وأعدد
ألاقي منها كتير اتحقق
وكتير أقرب منه بيبعد

وأفرح في ثانية وأغضب في ثانية
وفي كل لحظة في حالة تانية
ممكن أكون فرحان وباكي
أو حزين مع ان حياته هانية

وفي وقت بحس بأني طاهر
واني مسكت الصواب بإيدي
وبعد لحظة ألاقيني ضايع
وأخاف من دموعي ودمي ف وريدي

وراغب وطامح وعازم وناوي
وأوقات بنام على القهاوي
وأكون مستشار وناصح لغيري
مع اني بضعف وبعمل بلاوي

***
ورغم كل الفوضى ديا
ورغم اني دايما مش فاهم نفسي
إلا اني دايما فخور اني عايش
بنفس الطريقة اللي عايزاها نفسي

في الاغتراب وعنه

تقول السطور في كتاب الزمن
بأن أرضنا كانت يوماً لنا
وأن وجهنا كان يعرف الابتسام
وأن شمسنا كانت تضيء للأنام
وبأننا ما كنا نتلعثم في الكلام
***
تقول السطور في كتاب الزمن
بأن أرضنا قد سلبها الغزاة
وأن وجهنا اكفهرت به القسمات
وأن شمسنا فقدت اللهب والحياة
وأن دواءنا بات خوفاً أو ممات
***
تقول النقوش في كتاب المكان
بأن المكان ما عاد لنا
وأن الحياة اختفت من هنا
وأن الذكريات اختفت كلها
ولم يبق منها سوى ورقة بعنوان
***
أمر على السطور، أتحسس النقوش
لا أرى أثراً لشعب، لا أثر لجيوش
لا أثر لحاكم أو محكوم
الكل اختفى؟ أهكذا في يوم؟؟؟
***
أمر على الطرقات، أتطلع للشرفات
الشوارع باقية، الحواري ضيقة
الزحام والضجيج والعراك
كل شيء مازال هناك
أتراني فقدت البصر؟
أتراني أخطأت الكتاب؟
أم تراني أصبت بلعنة الاغتراب؟
أبين الأهل وفي الوطن يكون الاغتراب؟؟؟
***
أعود للسطور وأحتضن النقوش
الزمان والمكان
الحجر والإنسان
أين ذهب الجميع؟
مازال بعضهم هناك، والبعض شاء الرحيل
لكن لا فرق، فالطريق بيننا في الحالتين طويل
ولا أمل في قطار سريع
***
تقول الحروف في كتاب الوطن
بأن المسافر والمقيم مغترب
وأن السعيد والشقي منتحب
وأن الوطن ما عاد لنا
وأن المكان قد ضاع للأبد
وأن الإنسان قد تاه للأبد
لا رجل ولا امرأة، لا بنت ولا ولد
ضباب يكتنف كل المكان
وأنا، وحيداً على المحطة، تعتصرني الأحزان
***
يقول الرواة بأن التصفح في كتاب التاريخ
به من العبر ما يفيد اللبيب
ولكن اعذروني.. لا أود التصفح
مللت التحسر والبكاء والتبجح
عذراً ومهلاً، لا أريد القراءة ولا المطالعة
أريد وطني، أريد ناسي، أو أروني صورة المبايعة

؟؟

كنت أستطيع أحياناً أن أتوقع قبل النوم مباشرة إذا كنت سأحلم في تلك الليلة أم لا، لكني فقدت هذه القدرة بلا مقدمات في الآونة الأخيرة، بل وربما فقدت معها القدرة على الحلم نفسه، على الأقل في المنام. فأيام تمر وتأتي أيام من بعدها وأنا لا أرى حلما واحدا في الليل، وبطبيعتي لا أرى أحلاما في اليقظة

إذا كان سبب الفقدان الثاني معروفاً لي لحد ما، فما السر وراء الفقدان الأول؟ وهل للأمر علاقة ببصيرة اكتُسبت أو فُقدت؟

أصناف

غالباً ما تتشكل الأيام في حياتنا على شكلين: الأول ملؤه أيام نندم لأننا عشناها وعاشتنا، والثاني ملؤه أيام نندم لأنها انقضت ورحلت

بعض الأيام أعيشه حتى نهايته بلا لذة ولا مغزى، وحين ينقضي ينتابني شعور بأنه ما جاء من الأساس وما حل بي، أو بأنه مجرد ورقة إضافية قطعتها في الصباح من لوحة التقويم التي مازلت أصر على تسجيل حضوري عليها في كل يوم وكأنني أعمل لدى ناشرها، أو رقم جديد أضيف إلى أيام عمري وقربني لحد يستحيل الجزم بمقداره من نهاية محتومة ومجزوم بشأنها سلفاً. إنها الأيام التي لا أفرح فيها ولا أحزن، لا أتعلم فيها ولا أعلم، لا أرضى فيها ولا أغضب، ولا أكاد أشعر بأني قد عشتها حقاً. والبعض الآخر من الأيام غاية ما أستطيعه بعد انقضائه هو التحسر عليه وعلى أنه فات وتسرب كاملاً دون أن أستمتع به بما يوفيه حقه وأسجل وقائعه بدقة في كتاب الزمن عساني أستطيع استرجاعها بالتفصيل إن شئت لاحقاً وأستعين بها على البعض الأول من الأيام وكآباتها. إنها الأيام التي أشعر أثناءها وفي نهايتها بالسعادة وبنغزات النشوة الحقيقية غير المصطنعة في قلبي طيلة ساعاتها وكأن عرض السعادة فيها مستمر. أيام أتعلم فيها الجديد حتى وإن لم أجربه ولم أنقله لأحد سواي بالضرورة، وأسعد فيها حتى وإن خالط سعادتي تلك بعض الشجن الذي لا مفر ولا بأس منه، وأرضى فيها عن نفسي أو على الأقل لا أكيل لها ما اعتدت من اتهامات بالنخوع. تلك هي الأيام التي أشعر بأني قد عشتها حقاً وبأنها أبعد بسنوات ضوئية من أن تكون مجرد أوراق تقطع وترمى أو يمسح بها الزجاج أو تجربة تعاش أو حالة تخاض وكفى. تلك الأيام هي أجمل ما في العمر والصواب أن تكون هي معيار حساب سنوات العمر، أو أيامه باعتبارها أياماً قليلة بطبيعتها، أو على الأقل في تجربتي الحياتية. في تلك الأيام أعانق أصدقائي حتى وهم في أبعد الربوع عني، وأحادث نفسي حتى وأنا أحسبها أبعد ما تكون عني. إنها الأيام التي أندم بعدها لا على أنها أتت، بل على أنها رحلت على غير رغبة مني ولا هوى

ليتني أعرف إلى أين ترحل تلك الأيام فأطاردها وألحق بها أو على الأقل أحاول ذلك وأسعى إليه، وليتني أستطيع تسجيل وقائعها بالنفصيل بالقلم وبالصوت والصورة معاً لأتفوق في مهنية التسجيل على المؤرخين في الزمن الغابر وما كانوا يفعلون في الأيام المشهودة. والأهم من هذا وذاك: ليتني أستطيع استقدام تلك الأيام وصرف نقيضها قبل أن يزورني ويعكر صفو ما خلى. ليتنا نستطيع التحكم في مجريات الحياة وصروف الدهر، لا لنجلب حلوها، بل لندفع مرها حتى وإن اقتضى ذلك ألا نعيش كل ما كتب لنا من أيام

هيهات.. لكن كم من الحمقى تمنى تلك الأمنيات قبلي؟؟

حبل وشجرة

طريق الحرية، قلب الإسكندرية وشريانها الرئيسي.. ظهر خميس عاصف استبقته أمطار رعدية غزيرة وزاعقة أطلقت أجهزة الإنذار بمعظم السيارات دون محاولات سرقة حقيقية. منطقة مصطفى كامل الراقية. حمار بعربة كارو خاوية منتظر على جانب الطريق بجوار شجرة محظوظة لم يخلعها المحافظ الجديد في حملته المستمرة منذ توليه المنصب لتطوير وتأنيق أرصفة الثغر على حساب كل ما عداها من عناصر البنية التحتية. المنظر غريب.. الحمار منتظر في شارع الإسكندرية الرئيسي وفي أحد أرقى أحيائها وعلى بعد خطوات من ونش المرور وضابطه السمج المشهور بين قائدي سيارات المدينة بأنه لا يرحم أصحاب السيارات غير المميزة. أين صاحب الحمار والعربة؟

عند الشجرة التالية، المحظوظة أيضاً، أرصد تجمعاً كبيراً من البشر ملتئماً على الطريقة الدائرية المصرية التي توحي من فرط حماس أصحابها وتشدده في الرأي بأن كل مشارك في تلك المظاهرة المصغرة هو قاضي القضاة أو هو المعني الأول بشأن التجمهر وما ورائه من أسباب. في وسط التجمع ألمح رجلاً يبكي ويسترحم الملتفين حوله وأحد رجال الشرطة المرتدين زياً مدنياً يمسك بتلابيبه ويتوعده بأسوأ مصير ويكيل إليه لكمات مركزة كل نصف دقيقة ويحاول جره بعنف إلى الناحية الغربية، حيث قسم سيدي جابر، ولكن الرجل يستميت في التمسك بموقعه ربما لأنه جرب احتفاء أقسام الشرطة بأمثاله من قبل. الظاهر أن صاحب الحمار سرق شيئا وحمله معه على عربته التي يجرها الحمار المسكين ولكن عيون الشرطة اليقظة لمحته وأمسكت به في الوقت المناسب. لم أستطع معرفة طبيعة الشيء الذي سرقه الرجل، الذي كان يبكي بحرقة وندم مفتعل لم يفلح في إثنائي عن التعاطف السطحي معه، بل ولم أستطع التأكد مما إذا كان قد سرق شيئاً بالفعل أم أن الأمر لا يعدو كونه مثلاً قد تطاول على أحد الباشاوات أصحاب السيارات الفارهة فكان لابد من إنزال أقصى العقاب به إعمالاً لمبدأ العدالة الفورية الناجزة ضد الفقراء. لم أستطع التحقق من هذا ولا ذاك لأن إشارة كيروسيز تحول لونها إلى الأخضر بأسرع مما كنت أود وأتوقع

***

نفس المكان، ليلة الخميس نفسه، والظروف الجوية على ما هي عليه أو ربما أردأ لأن المطر ينهمر الآن بكثافة تفوق ما كان في الظهر. عائداً أنا إلى المنزل كنت بعد يوم طويل مرهق. لمحت شيئا غريباً عند الشجرة نفسها (الشجرة الأولى). الحمار المسكين مازال هناك، ولكن بلا عربته. يبدو أن البعض قد قام بحله من العربة لتسيير المرور في طريق الحرية، او ربما قام أحدهم بسرقة العربة ولم يجد من الحمار نفعاً محتملاً فتركه إلى أن جاء واحد آخر وربطه في الشجرة بحبل قصير لم أستطع تحديد مدى قصره بفعل الظلام وسرعة المرور في تلك اللحظة من المساء. حرام والله.. الحمار قضى أكثر من سبع ساعات واقفاً في نفس المكان الممطر البارد بلا طعام ولا شراب وغير حاظ من متاع الدنيا سوى بحبل قصير ونصيب من جزع شجرة قديمة. الحمير، إذن، في زماننا هذا عليها أن تدفع ثمن أخطاء اصحابها. جميل جداً، وهنيئاً لنا بمدنيتنا المتحضرة التي تعبر عن نفسها لساعات في أحد أرقى أحيائك يا إسكندريتي. لم يفكر أحد من الأهالي أو أصحاب المحلات في طلب تدخل الشرطة، مثلاً، لنقل هذا الحمار المسكين إلى مكان ما لحين انتهاء وصلة التعذيب ضد صاحبه
!!!!

***

أو ربما خاف الحمار ورفض زيارة القسم
!!!

بزرميط بزرميط

بزرميط بزرميط
وقرع عسلي وجدل مميت
مصر فيها كوسة يابا
للي ساهل والحويط
واللي ماسح جوخ بدقنه
واللي فالح في الصويت
وف التهاني والتعازي
وللمقشف والأليط
كله عايش دور معلم
كله نازل في السويت
عكمة كبرى وتركة سايبة
يبقى ليه تعمل عبيط؟؟
حش واقلع، حش وسطك
قيد وولع بالكبريت
اشي مخازن واشي خزاين
والفاعل دايما عفريت
ما الفواعلي صبح مهندس
والمقاول أنتج شريط
والشيوخ عمالة تنهب
بالخزعبل والحواديت
والغفير بيسرق كشكه
ويبيع خشبه.. ومش تنكيت
ويقولوا عايزين نتقدم
اما صحيح عالم ؟؟؟؟ـيط
!!!!!!!!

عن حالة الهوس الديني الراهنة

أفضل - في هذه المدونة - استخدام مصطلح "الهوس الديني"، ولا أحبذ استخدام مصطلح "السعار الديني، رغم أن الثاني في تصوري هو الأقدر على توصيف ما أراه سائدا في المجتمع المصري اليوم من تمسح سطحي شديد بقشور الدين وتوافهه وثانوياته وبفكرة التعمق في بحور الدين وفكرة التدين في حد ذاتها كملاذ في نظر غالبية محدودي الثقافة من كل شر وكحل أوحد لكل المشكلات ومن التوسع في اعتماد الدين معيارا وحيدا للحكم على كل الأشخاص والأشياء ولتقييم مدى صلاحيتهم او صلاحيتها للأغراض شتى. ولن أخفيكم أن السبب وراء استخدامي المصطلح الذي أراه أقل قدرة على التعبير في سياقنا هذا، وخصوصا في عنوان هذه المدونة، يرجع بالمقام الأول إلى رغبتي في مراعاة شعور بعض أصدقائي ممن أعلم جيدا ومسبقا أن مثل تلك الصراحة في اختيار مفردات العناوين كثيرا ما تغضبهم مني وتحملهم على التحيز المسبق ضد ما قد يحتويه اي متن أنشره

على أية حال، دعوني أنفذ مباشرة إلى قلب الموضوع الذي أود التفكير فيه بصوت عال معكم هنا. ولتسمحوا لي، مبدئيا، أن أصيغ أطروحتي المرادة هنا في صورة سؤال واحد محوري سأتفرع منه - بالطبع - في الفقرات التالية إلى أسئلة ونقاط أخرى مكملة، والسؤال هو: ما الذي أوصل مصر إلى حالة الهوس الديني المتفاقم هذه التي تكاد ملامحها تقفز في وجهي كلما مشيت بشارع أو شاهدت قناة فضائية أو تصفحت مجلة أو استكشفت عناوين الكتب المعروضة هنا أو هناك؟؟ .. وأظنني لست بحاجة في اللحظة الراهنة إلى مناقشة نفس السؤالين الآخرين اللذين طالما اشتهرت بهما بين من أعرفهم أحادثهم وخصوصا في الفترة الأخيرة، وهما: لماذا انتشر المد الديني من جديد بداية من النصف الثاني من السبعينيات وأين كان الدين قبلها في حياة المصريين ولماذا نسيوه فجأة ثم تذكروه فجأة؟ ثم: لماذا لا نرى انعكاسا حقيقيا للسلوك الديني القويم في حياة من يتبنون قشور الدين ويتمسكون بفتاوى وتعاليم مشايخه الأكثر تشددا ويحاولون فرض أنفسهم علينا كنماذج دينية كاملة متكاملة لابد أن تحتذى؟؟ وكما قلت، فأظنني لست بحاجة حقيقية إلى مناقشة هذين السؤالين الطويلي المتن في هذا المقام لأنني لا أريد فتح أكثر من جبهة في لحظة واحدة ولأنني من المؤمنين لحد كبير بمبدأ التخصص حتى في النقاش

حسنا، دعوني أفكر بشكل عملي سعيا للوصول إلى إجابة أو إجابات مقنعة على هذا السؤال.. ودعونا لا نستسهل الأمور فنقدم نفس الإجابات والأسباب الجاهزة المعلبة: ففي رأيي أن إجابات مثل "إنه الفقر الذي يجبر الناس على الارتماء في أحضان التطرف الديني الذي يمنيهم بحياة أفضل من حياتهم الراهنة"، أو "إنها ظاهرة العائدين من الخليج الذين جلبوا معهم ثقافة البداوة والتزمت الصحراوية العتيدة"، أو "إنه المد الوهابي السعودي والخليجي المدعوم بأرصدة البترول والذي يعبر عن نفسه في صور شتى دبلوماسية وإعلامية واقتصادية يمكن وضعها كلها تحت عنوان واحد هو تنامي نفوذ دول البترو-إسلام" - مثل هذه الإجابات إنما هي إجابات قاصرة في رأيي عن أن تمدنا بصورة عقلية وافية ومقنعة بدرجة كافية لحالة الهوس الديني الراهن التي على المرء معايشتها ومعايشة ناسها ورموزها كل يوم وفي كل مكان في مصر المشهورة تاريخيا بالاعتدال.. وتفنيدا: فالتزمت الزائد والتمسح بقشور الدين من أزياء ومفردات لغوية وقصص ورموز وشخصيات ووقائع تاريخية وأوامر ونواه ثانوية وروايات خيالية لا يمكن أن يصدقها أي شخص يجيد استخدام عقله أو يسعى لذلك حتى مجرد السعي – هذا التزمت وهذا التمسح ما عادا حكرا على الطبقات الفقيرة والدنيا في المجتمع المصري، وأنت إذا زرت أي مركز تسوق كبير في مصر – على سبيل المثال – فإنك قد تلاحظ بسهولة أن زوجة رجل الأعمال خريجة المدارس والكليات الأجنبية وخادمتها الأمية تكادان لا تشتركان معا سوى في شيء واحد هو النقاب أو الخمار ولكن مع اختلاف النوعية والعلامة التجارية بالطبع واللون احيانا. والقول بأن المصريين العائدين من الخليج والذين مازالوا يعملون هناك، وهم في أكثريتهم من فئة من الطبقة الوسطى المصرية تتمتع بمستويات ثقافية وذهنية متوسطة على أحسن الفروض حتى وإن كانت نالت نصيبا معقولا من التعليم النظامي، هؤلاء قد جلبوا معهم إلى مصر ثقافة البداوة التي سرعان ما تأثروا بها بمجرد أن وطأت أقدامهم أراضي بلاد النفط التي أغراهم وأسر ألبابهم كل شيء فيها وذكرهم بسوء أحوالهم وأحوال ذويهم في بلدهم الأصلي – مثل هذا القول ما عاد يصلح لتفسير تنامي المد الديني المتزمت في مجتمعنا تفسيرا دقيقا أو شاملا لأن الدول الخليجية اليوم ما عادت تستقبل نفس العدد من العمال والموظفين المصريين كما كان يحدث قبل حرب الخليج الثانية مثلا ولأن المصريين الذين يسافرون إلى بلاد الخليج اليوم هم في أكثريتهم ممن تغلغلت ثقافة التزمت والسطحية الدينية إلى نفوسهم وتمكنت من عقولهم حتى من قبل أن يسافروا إلى معقل تلك الثقافة، وإن كنت لا أملك بالطبع أن أنكر أن كثيرين من أولئك يعودون من بلاد الحلم النفطي الرقراق وقد اكتسبوا تطرفا فوق تطرفهم الأصلي وسطحية دينية فوق سطحيتهم الأصلية. وأخيرا، فالقول بأن المد الديني المتزمت الذي يفرض نفسه علينا اليوم فرضا هو نتاج لتنامي ما لدول البترو-إسلام من نفوذ وتأثيرات وسعيها بالتالي لفرض ثقافتها - أو هيمنتها الفكرية بقوتها المرنة المزعومة - على الوافدين إليها وعلى محيطها بوجه عام، حتى وإن كانت تلك الدول في حقيقتها مجرد مساحات هامشية من اليابسة لا تتجاوز مساحتها على أي خريطة كبيرة الحجم مساحة إصبع طفل صغير – هذا القول هو أيضا في رأيي ينطوي على غير قليل من المبالغة والتبسيط الزائد للأمور؛ وللتدليل على ذلك يكفيني أن أسوق مثالا بسيطا في هذا السياق: فقد لاحظت أن القنوات الفضائية التي تمعن في نشر ثقافة التطرف والسطحية وكراهية الآخر وحب الخرافة بين المصريين، والقنوات التي تدأب باستمرار وبلا كلل على تشنيف آذان المصريين ببرامج مستمرة على مدار الساعة للرد على أسئلتهم واستفتاءاتهم فيما يتعلق بأمور جد ثانوية وجد سطحية وخرافية، هي قنوات ليست خليجية بالكامل كما كنت أظن ولا هي ممولة بالكامل من عوائد صادرات النفط الخليجي كما كنت أحسب في البداية قبل أن أتمعن في الأمر قليلا وأتابع عن كثب لبعض الوقت. فقناتان مصريتان مثل دريم والمحور، بكل ما لهما من تأثير في المصريين، تدأبان منذ فترة ليست بالقصيرة على تقديم برامج من نفس النوع وعلى نفس الدرجة من السطحية والتشدد وكأننا أمام مشروع إعلامي متكامل شديد القماءة، وبطبيعة الحال فإن تأثير مثل تلك القنوات المصرية على المشاهد المصري يكون أكبر من تأثير القنوات الخليجية لأن المشاهد المصري بطبيعته لا يفقه اللهجات الخليجية كثيرا ما لم يكن قد سبق له السفر إلى إحدى الدول المتكلمة بها ولا يحب الاستماع - في العادة - إلى أي نبرة أو لكنة مختلفة وحادة في الحديث ولا يجد في المناخ المخملي العام السائد في بلاد تلك القنوات ما يشبه واقعه اليومي المعيش وبالتالي لا يجد في ذلك المناخ قدرة إقناعية فائقة، وشخصيا لا أظن أبدا أن قنوات فضائية مثل دريم والمحور تفعل ذلك رغبة منها في مسايرة وتقليد القنوات الخليجية مثل اقرأ والناس بقدر ما تفعله إيمانا من القائمين عليها بأن تثقيف المصريين بأفضل طرق العلاج بالقرآن وبالحجامة وبأساليب إخراج الجن من الأظافر وبالقدم المفضلة للدخول إلى الحمام وباسم الصحابي الذي كان ترتيب دخوله في الإسلام هو التاسع بعد المائة من الرجال – تثقيف المصريين بكل تلك التفاهات إنما هو في رأيهم رسالة إعلامية مثالية سامية ومهمة دينية جليلة سيجزون عليها خير الجزاء في العالم الآخر، وتكفيني الإشارة إلى مالك قناة المحور وهو رجل صناعة أسمنت ثري ومن كبار محتكري سوقه ولكنه كثيرا ما يظهر على شاشة قناته الخاصة ليعظ ويقدم الدروس الدينية المجانية التي لا أظنه أهل لتقديمها إلا لجمهور من المسطحين

إذن فلابد أن تكون ثمة أسباب أخرى جديدة أو مستحدثة بخلاف، أو فضلا عن، الأسباب الثلاثة التي عرضت لها أعلاه. فماذا عساها تكون تلك الأسباب؟

هل يتعلق الأمر – مثلا – بانتشار الإنترنت وقدرة أعداد متزايدة من المصريين (وخاصة من المنتمين إلى الطبقات الدنيا) على الولوج إلى الشبكة والاشتراك في منتدياتها وشبكاتها الاجتماعية التي كثيرا ما تكون ساحات خصبة لنشر ثقافة التطرف والتمسح بالقشور والنظر بعنصرية إلى كل أصحاب المعتقدات الأخرى؟ ما هو دور الإنترنت في تنامي حالة الهوس الديني تلك التي أوصلتنا إلى أن أصبحت نسبة النساء المنتقبات في شوارعنا الأعلى في أي دولة عربية أو إسلامية خارج أفغانستان والباكستان والخليج العربي؟ أظن هذا السبب المقترح يستحق مزيدا من التحليل والتأمل، ولكنني في هذا المقام أكتفي بعرضه دون مناقشته مناقشة وافية ليس فقط لضيق المقام والوقت، ولكن كذلك لأنني لست من العالمين ببواطن الأمور على شبكات ومنتديات المواقع الإسلامية وبالتالي فإن دلوي في هذا الموضوع لن يكون ممتلئا أو تفصيليا بما يكفي لصياغة رأي رصين، ومن ثم فإنني أترك تلك المهمة لأحد الأصدقاء الأكثر دراية مني بتلك البواطن

ثم، إلى أي مدى يمكننا القول إن للأمر علاقة بالحرب الأمريكية الجائرة والكاذبة على الإرهاب؟ إلى أي مدى أثارت تلك الحرب مشاعر التطرف لدى البعض ومشاعر الحمية الحماسية في الدفاع عن الدين والجهاد ضد أعدائه؟ وهل يمكننا الجزم بما إذا كانت الحرب على الإرهاب (وهي حرب من أجل النفط في حقيقتها كما أظن) هي التي أشعلت مشاعر الحمية الدينية في نفوس الشباب المسلم المحدود الثقافة، ولأي مدى يمكننا القول إن تلك المشاعر كانت قائمة ومشتعلة أصلا وبدرجة لا تقل عنها اليوم حتى من قبل أحداث سبتمبر وغزوته الإسلامية الكريهة؟ وإذا كان ذلك كذلك، كما يقولون في العلوم الشرعية، فلماذا توقف الجهاد ضد الأمريكيين على أراضيهم وخارجها في العالم كله بينما فصول حربها المستعرة على الإرهاب مستمرة بلا توقف ولماذا لم يعد الجهاد الديني ضد القطب الأمريكي المتوحش يتم إلا في البلدين الإسلاميين الوحيدين اللذين يحتلهما الأمريكيون رسميا او ضمنيا: العراق وأفغانستان؟؟

ثم ماذا عن قائمة الأسباب المقترحة التالية: غياب فكرة المشروع القومي، أو الحلم، الذي يجتمع الكل حوله وعليه – تهاون الحكومة النسبي في مواجهة حركات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الأخوان – الفساد والاستبداد اللذان يمثلهما نظام الحكم المصري خير تمثيل واللذان دفعا السواد الأعظم من الناس إلى الاستعداد لتبني والدفاع عن أي بديل مهما كان متطرفا أو جاهلا – شعور الناس بالانهزام على المستوى الجمعي وبالبعد الكامل عن أي مفهوم أو مستوى للمثالية مما يدفعهم تلقائيا إلى الارتماء في أحضان التزمت والقشريات الدينية لدرء الشبهات عن أنفسهم ولمحاولة الظهور أمام أنفسهم وأمام الآخرين وكأنهم أصحاب مشروع (ديني)، على أي حال – الظروف الاقتصادية السيئة وتأخر سن الزواج وارتفاع البطالة والتضخم الخ الخ (وإن كنت أرى أن ذلك كله قد يولد - مثلا - ظاهرة الحجاب ويفاقمها ولكن ليس النقاب) – الاستقطاب السياسي المتبادل بين الحكومة والجماعة المحظورة والجماعات المتأسلمة التي على شاكلتها وسعي تلك الجماعات لاستعراض القوة أمام الحكومة وحشودها وأجهزتها الأمنية وكأن الحركات المتأسلمة تقول للحكومة إنها إذا كانت تملك الجبروت الأمني في أبشع صوره فإنها – أي الحركات المتاسلمة – تملك الشارع برمته (برؤوس نسائه ووجوههم المحجوبة ولافتاته التجارية والانتخابية المعلقة هنا وهناك ذات الشعارات الدينية الرنانة الفارغة وأسماء محلاته ومتاجره ذات الإسقاطات الدينية المضحكة مثل "الحرمين الشريفين لإصلاح الساعات" أو "بقالة الصحابة"، وصولا إلى بائع البخور والشرائط الدينية المتجول الذي يليس القفطان القصير الذي يظهر شعر ساقه في سعي - ظني - منه للتعفف وتوفير القماش الذي لن يأخذه معه إلى القبر وإلا فسيكون مبذرا مترفا وبالتالي فإن الثعبان الأقرع سيكون في انتظاره ليصفي حسابه المستحق معه) – الخ الخ الخ ؟؟؟

القائمة يمكن أن تكون أطول بكثير وهذه كلها أسباب محتملة ولا يمكن أن يخلو منها أي تحليل موضوعي أو شامل للظاهرة. وإذا وضعنا هذه الأسباب كلها معا، إلى جانب الأسباب الثلاثة الأصلية أو "المعلبة"، فقد تتضح الصورة أمامنا لحد كبير ونستطيع استجلاء الكثير من معالمها على نحو كاشف. لكن هذه الأسباب كلها، في رأيي، هي أسباب ثانوية أو مظهرية، أو بالأحرى هي تجليات خارجية لسبب محوري أعمق وأعقد مستتر وضمني لحد كبير وأكاد أجزم الآن أكثر من أي وقت مضى أنه المحرك الكامن الرئيسي لموجة التطرف الجهالي الراهنة ولكل آفاتنا ومقومات تخلفنا ومظاهره الأخرى المترتبة عليها: إنه تردي النظام التعليمي المصري لأقصى الدرجات التي حتى قد لا يمكن تخيلها في أسوأ كوابيس التربويين ورجال التعليم. وبكل بساطة أقول خلاصة رأيي في الأمر كله: بدون نظام تعليمي جيد قادر على تعليم تلاميذه مهارات التفكير والنقد والتحليل والربط بين الأجزاء المتناثرة للمشكلة أو القضية الواحدة، وبدون مدرس مثقف ومتفهم ومرن ومتدرب، وبدون إدارة مدرسية واعية ومتفتحة ومناهج تعليمية اكثر حداثة وعقلانية وأساليب امتحان وتقييم وتقويم أكثر ابتكارا وأشد تركيزا على قياس مهارات النقد والتحليل وليس الحفظ والاسترجاع – بدون هذا كله لا تستغربوا أبدا إذا رأيتموهم في مصر في لحظة ما من المستقبل – قريبه أو بعيده – يحفرون للناس الحفر في الأرض ويدفنونهم فيها حتى الرأس ثم يرجمونها بالصخور لأنها تجرأت وخرجت بدون أمر زوجها أو لأنه تجرأ وارتدى قفطانا طويل الذيل

وختاما، أظننا مطالبين بالسعي فورا نحو تطوير نظامنا التعليمي برمته لأن الأوضاع في الواقع لا تتحمل مزيدا من التردي ولأن استمرار الحال على ما هو عليه معناه تحول مصر إلى أفغانستان جديدة في يوم من الأيام، حتى وإن على مقياس نسبي. ولكن هل الأوضاع السائدة الآن توحي بأن شيئا من هذا القبيل يمكن أن يتم، على الأقل في عصرنا؟ .. للأسف، أشك

حلم وعلم

(1)
مطاردة من نوع غريب: أركض، ويركض ورائي صديق قديم
لم أره منذ فترة، ولم أفهمه أبداً
لعلي أركض خوفاً منه، ولعله يركض ظاناً أنني أرشده إلى مكان ما
ولما بلغت – قبله – حافة التل الزلقة، وقبل أن أبدأ رحلة الهبوط الاضطراري
رأيته يلوح لي بذراعيه، كأنه يحذرني، أو يودعني
وحين وصلت إلى السفح، وجدته قد سبقني إلى هناك
وقال لي شيئاً، سمعته، لم أستوعبه ولم أبال

(2)
وفي الواقع، قابلته في اليوم التالي
في منتصف النهار، في شارع تجاري مكتظ بالبشر
عجباً.. قابلته مرتين بمحض الصدفة في يومين وليلة
وكنت أظن حياتنا صارت أعقد من أن تسمح للمصادفات بالحدوث
ولكننا تقابلنا، وجهاً لوجه، بلا ترتيب
كم يشبهني، أو – بالأحرى – كم صار يشبهني
مازال يحاول إلقاء نفس الرسالة علي، وقول نفس الشيء لي
ومازلت أهرب منه وأتجنبه، مع أنني سمعت الشيء ولم أعقله
لا توجد في هذا الشارع تلال ولا سفوح ولا قمم زلقة.. صحيح
ولكن هناك إمكانية – على الأقل – للفرار من أمام تلك الفاترينة
ثم.. من قال إنني أريد شراء السراويل؟؟

(3)
وفي ليلة تالية، زارني من جديد
ولا أظن الأمر صدفة حقاً
لاشك أن هناك ترتيباً ما، أو غاية ما
ثم: لماذا بات يصر على زيارتي دائماً وأنا منهك؟
ولماذا يصر على مطاردتي ليلاً حتى أقع من علو ما؟
في المرة الأولى أوقعني من فوق قمة تل
وفي هذه المرة أوقعني من على متن سفينة
وأنا لا أجيد الطيران – بالطبع، ولا العوم – للأسف

(4)
وجاءني لمرة أخيرة، أو على الأقل هي كذلك في نفس الأسبوع
لكنه جاءني في موعد مختلف ومكان أكثر حميمية
لأول مرة لا يزورني في منتصف الليل أو في منتصف النهار
زارني هذه المرة في الصباح الباكر، وأنا مازلت أفرك عيني امام المرآة
رأيته من جديد
وحاولت هذه المرة ألا أهرب منه
حاولت أن أستمع إلى رسالته من جديد، فلربما تكون ذات شأن
وربما يكمن فيها سعدي، أو شقائي
ولكنه لم ينطق بها – ويبدو أنه لا يحب التكرار
وظل يقلدني على نحو مستفز
أتراه يبغي مطاردة أخرى؟
ومن ذا المستعد للقفز من النافذة، في العالم الحقيقي؟؟

(5)
كم سئمته وسئمت زياراته الصباحية والمسائية عديمة المغزى
لكني لا أظن أن بيدي فكاكاً منه

طائر الفينيق.. تأملات في فعل النهوض

تقول الأسطورة إن طائر الفينيق، أو "العنقاء" (وأحياناً "الرخ")، هو طائر خيالي ضخم طويل الرقبة متعدد الألوان (وإن كان يغلب عليه لون الطمي)، فريد ولا مثيل له. وتقول الأسطورة - كذلك - إن الفرد الواحد منه يعيش لنحو خمسمائة عام، وفي نهاية "حياته" يجثم على عشه في استكانة وغموض ويغرد لآخر مرة في حياته - الراهنة - بصوت خفيض حزين، إلى أن تنير الشمس الأفق وهو عن الحركة عاجز فيحترق ويتحول رماداً وهو يصدر أصواتاً تبدو أقرب إلى الأصداء. وعندما يكون الجسد الضخم قد احترق بالكامل، تخرج يرقة صغيرة من بين بقاياه وتزحف في دأب نحو أقرب بقعة ظليلة وسرعان ما تتحول إلى طائر الفينيق التالي، وهكذا

وهو كان ثاني المستحيلات في الزمن القديم (الذي - أرى أنه - لم يكن خياله خصباً في إطلاق صفة الاستحالة على الظواهر، ربما باستثناء ما يتعلق بالمستحيل الثالث، أو "الخل الوفي"). وعلى أية حال، فالرخ يكاد يُجمَع بتمام على أنه كائن رمزي أو دلالي أكثر منه واقعي أو حقيقي أو ممكن التصور منطقياً. بيد أن تحقق فكرته الرمزية على أرض الواقع ليس بنفس تلك الدرجة من الاستحالة، أو على الأقل في بعض المواقف الحياتية أكثر من غيرها وبالنسبة إلى بعض الجماعات أكثر من غيرها

ولعل ما يكسبه شهرته التي تبلغ الآفاق أنه يستطيع - وقتما يظن من يرقبونه بتشف وهو يحترق أنه اندثر إلى الأبد - أكثر من أي مخلوق آخر النهوض من جديد وتحقيق فكرة البعث وتحدي الجمود والنواميس، حتى بعد اجتيازه المواجهة ضد أحلك قوى الطبيعة وأكثرها جبروتاً وشراسة ونهماً للتدمير وتلذذاً بعدم الإبقاء على شيء حي: النار، اياً كان نوعها أو مشعلها أو درجة شدتها

زمكان

في طول المدينة وعرضها، لا أجد مكاناً واحداً هادئاً يمكنني الاختلاء فيه بنفسي أو إليها ولو للحظة واحدة بدون عيون ترقب أو آذان تتلصص أو ألسنة تزعج، لا لأن الإسكندرية قرية كبيرة كما يقول القاهريون ولكن لأن الناس - أو من يستحق هذا الوصف منهم - فيها أسراب جراد بشري تقتحم كل مكان وكل خلوة بلا إذن

وطوال الساعات الأربع والعشرين، لا أجد ربع ساعة واحد أستطيع التفكير فيه بصوت عال مع نفسي، لا لأنني مشغول دائماً أو مهم للغاية، ولكن لأن الزمن يتسرب من على معصمي بنفس سهولة تسرب المكان من أسفل قدمي: الأوقات يتسرب في المشاغل الروتينية والتوافه، والأمكنة تتسرب بفعل المتطفلين المالئين كل الطرقات في كل اللحظات

لكن.. حتى لو توافر - فرضاً - المكان والزمان، أو "الزمكان" كما أسماهما أينشتين في نسبيته، التي لم ينهها بالهاء، ففيم سأفكر عندئذ؟

أظن أن علي أن أفكر في ذلك أولاً، إذ ربما تسنح فرصة ما

تذاكر - قصة قصيرة


لو سمحتي عايزها تكون قدام ومتطرفة، على أي جنب


اندهشت الفتاة بعض الشيء، ومنحتني تذكرة بالمواصفات التي حددتها لها. حفظت التذكرة في جيبي ولا أدري لماذا نظرت إلى رقمها في بلاهة وكأنه علي حفظه أيضاً. المهم أن مقعدي سيكون في أقصى يسار القاعة، وسيكون على بُعد ثلاثة صفوف من شاشة العرض، ولا أظن أن أحداً سيكون إلى جواري في موقع كهذا. حتى الفيلم نفسه الذي اخترته لا يمكن أن يدخل القاعة من أجله متفرجون كُثر، وأغلبهم سيكون في المقاعد الخلفية. الناقد في صفحة السينما بالجريدة اليومية الرصينة قال إنه فيلم لا يمكن أن ينجح تجارياً ولا حتى نقدياً: أحداث مأساوية وسيناريو مفكك. إذن فهو اختيار صائب من كافة الأوجه بالنسبة إلى – من هو في حالي – راغب في الاختلاء بنفسه والحديث إليها، والشكوى منها وإليها، وربما البكاء أمامها بلا كبرياء مفتعل، تحت جنح الظلام والضوضاء الفنية المتهافتة

***

دخلت القاعة بمجرد أن سمح أصحاب القمصان الزرقاء لحاملي التذاكر بالدخول إليها، وربما كنت أول من دخلها. وجدت مقعدي فعلاً في مكان مميز – بمعاييري الراهنة: بعيد تماماً عن الأعين، وربما حتى لن يشعر المتفرجون الخلفيون بوجودي فيه أصلاً. لكن الجو بارد في القاعة بوضوح، وبدأت أشعر بالندم على عدم ارتداء معطفي البني في مثل ذلك الوقت من العام، ومن اليوم. والموسيقى غير مميزة، كذلك. سمعتها من قبل على الأرجح، ولم أحبها أبداً. يبدو، على أي حال، أنها مقدمة موفقة من دار العرض لفيلم لن يختلف تقييمي النهائي له كثيراً عن تقييمي الأول والنهائي (أو الحالي) لها، لكن ذلك طبعاً إذا ما صدق حدس الناقد في الجريدة. أما باعة المشروبات والمناديل فقد تجاهلوني تماماً واكتفوا بمطاردة والإلحاح على شاغلي المقاعد الخلفية الذين مع كل منهم طفل أو زوجة أو حبيبة، وعادة ما تؤتي ضغوط الباعة ثمارها في مثل تلك الظروف. بالطبع لم يحزنني أنهم تجاهلوني، بل العكس تماماً صحيح. أريدها حفلة سينمائية لا أنشغل خلالها سوى بنفسي وبهمومها. لا أبكي خلالها سوى على نفسي، ومن أجلها. وأظن الفيلم نفسه جوه من النوع الحزين، أو هكذا قال الناقد في الجريدة، وبالتالي فلن أتلبس بضحكة هنا أو هناك. حقاً كان اختياري مثالياً، لكن ليتني ارتديت المعطف في آخر لحظة، قبل النزول بلا تخطيط، لأن البرد بدأ يقسو أكثر وأكثر وبدأت أخشى أن يدفعني في لحظة ما وسط العرض، أو أثناء الاستراحة، إلى الالتحام بشاغلي المقاعد الخلفية التافهين. الآن فقط اكتشفت أيضاً أن موقعي هذا هو الأقرب إلى فتحة التهوية الوحيدة بالقاعة، حيث يمكنك أن تشعر برذاذ المطر في الخارج على استحياء

***

البطلة جميلة جدا والبطل يحبها فعلاً، والقصة ككل تقليدية ولكنها ممتعة ولا أدري متى سيبدأ السيناريو الممل الذي كتب الناقد عنه في الجريدة في التحقق تدريجياً. ولا أدري أصلاً إن كنت فعلاً في انتظار لحظة الانكشاف والانقلاب تلك. صحيح أنني أود الاختلاء بنفسي والتفكير العميق؛ أريد التفكير بلا تطفل على خصوصيتي حتى من الأبطال السينمائيين وصانعي الأفلام المحترفين. ولكن الفيلم أمامي جيد، حتى الآن. وبالطبع ألمح جواً حزيناً في الفيلم وأستشف تمهيداً من صناع الفيلم لعقدة متصاعدة وحبكة ربما تكون حزينة وقاسية على البطلين، أو على أحدهما، ولكنني مستمتع على أية حال بما أرى أمامي على الشاشة. كما أن رقبتي بدأت تؤلمني، وظهري أيضاً، ولكن ألم أختر أنا موقع المقعد بمواصفات قاسية أدهشت بائعة التذاكر النحيلة؟؟ إذن فلأستمر في إدهاشها، لو كانت تراني الآن أصلاً

والبرد بدأ ينخر في عظامي فعلاً، كذلك. أشعر بوخز مؤلم أعلى ركبتي، وأظنه بسبب الجو القارس البرودة. لكن الأحداث على الشاشة ساخنة بعض الشيء: خيانة من حبيبة كانت – في ظنه – فوق مستوى سقطات البشر، وانهيار غير متوقع من حبيب كان – في تصوري – أصلب من أن تحفر الحوادث موقعاً للأحزان في قلبه. لكنها تدعي أنها بريئة، وطبيعي ألا يصدقها، وطبيعي أن تزعم أن هناك من لفق أشياء وشبه أشياء ونقل أشياء كان لها أثر شبيه بأثر الخيانة في ملابساتها ونتائجها ومرارتها، وطبيعي ألا يصدقها. الحبكة كانت محكمة بشدة، ليس منها بالطبع. إنها حبكة صناع الفيلم الذين نجحوا – حتى الآن – في شغلي عن التفكير في أحزان لم أعد أعبأ كثيراً بها في هذه اللحظة (فبعد انتهاء الفيلم، أو بعد مجيئ لحظة الملل الفارقة التي حذر الناقد في الجريدة منها، سيكون بوسعي العودة إلى الأحزان من جديد، فلم أسمع – للأسف – عن أحزان تطير). الحبكة التي جعلتني أنسى الجو البارد والوخز في عظام ساقي بين اللحظة والأخرى. الحبكة التي نجحت في تكذيب أقوال ناقد محترف في جريدة رصينة. لكن البطلة كان عليها أن تلعب دور الضحية بسبب تلك الحبكة المعقدة

***

فجأة بدأ سيناريو الملل، ولكن ليس بالصورة التي رسمها الناقد.. صحيح أن جو الفيلم قد شدني بوضوح وأنني أفكر مع البطل فيما إذا كانت حبيبته – السابقة – خائنة حقاً، وصحيح أن هذا جعلني أقل تمسكاً برغبتي في الانعزال عن بقية المتفرجين، ولكنني مازلت أود الاختلاء بنفسي لأنني لا أعلم متى بالضبط سيتحول السيناريو إلى الملل والتهافت. لكن ذلك الرجل العجوز يقترب مني، ينزل الدرجات المتوسطة الانحدار المفروشة بالسجاد الأزرق الأنيق في بطئ وترنح، يتجه نحوي مباشرة وكأن صحبة المتفرجين الخلفيين السعداء لم ترق له، إن كان قد أمضى بعض الوقت بينهم فعلاً. غريب أمره.. لماذا يتجه صوبي ولماذا جلس أمامي مباشرة، في الصف الثاني أمام الشاشة، في مكان لا أحد يفكر في الانتقال إليه بينما القاعة شبه خاوية – ربما باستثناء حزين مثلي؟ ولماذا هو أصلاً موجود هنا؟ في هذا الفيلم؟ في تلك القاعة؟ في موعد تلك الحفلة؟ ثم.. لماذا يصدر أصواتاً غريبة عند التنفس؟

من أنت أيها العجوز ولماذا تحاول اختراق خصوصيتي؟ ولماذا لم يحذرني الناقد منك؟؟

***

أظنها لم تخنه. الحبكة قوية ومحكمة للغاية، لكنها لم تنجح معي. وجهها الملائكي لا يمكن أن تقترف صاحبته خيانة من هذا النوع، وحزنها المميت من بعده ليس بحزن ندم على فعل بقدر ما هو حزن ندم على فقد. عموماً علي أن أؤنب نفسي عقب الخروج من القاعة، عقب انتهاء العرض، لأنني – مثله – كنت ممن ساورتهم الشكوك فيها للحظات. ولا أتعجب الآن من شيء – بخلاف الرجل العجوز الغامض الجالس أمامي – بقدر تعجبي من عدم قدرته على أن يرى الحقيقة بوضوح والمفروض فيه أنه أقرب إليها مني. إنها بريئة يا فتى، فلتتنبه قبل أن تفقدها إلى الأبد

***

ياااه، إنه من أصحاب القمصان الزرقاء، من العاملين بالقاعة. لم يكن جالساً مع الناس في الخلف. لكن كيف لم ألاحظ ذلك عندما كانت المشاهد على الشاشة أكثر تفتحاً؟ المفروض أنه من رجال الأمن، ولكن سنه وتهالكه – وصعوبة التنفس المزعجة التي يعاني منها – تشي بأنه لا يستطيع أن يحفظ الأمن حتى في حضانة، فما بالك بحفلة سينما مسائية كهذه

لكن كيف يسمحون له بالجلوس على المقاعد وكأنه من المتفرجين؟ أين أنت يا فتاة التذاكر من ذلك؟؟

***

لأول مرة، منذ بداية الفيلم، ألعن الناقد. هل شاهد هذا الفيلم حقاً أم كان يكتب عن فيلم آخر؟ أو لعله استسهل الأمور وكتب عن الفيلم من وحي الأذن. لكنه صدق في شيء واحد: هذا الفيلم لا يمكن أن ينجح تجارياً لأنه من تيمة مختلفة، حزين ومركب ونهايته غير سعيدة. صحيح أنها لم تحن بعد، ولكنها تقترب، وأكاد أتلمس ملامحها من الآن، قبل نحو ثلث الساعة من الوصول إلى خط النهاية

ولكن ماذا عن أحزاني أنا التي لم أفكر فيها منذ انطفأت الأنوار في القاعة في المرة الأولى؟

***

قام رجل الأمن من مقعده وترنح مرة أخرى بغرابة وهو يصوب أنفه صوب فتحة التهوية الوحيدة، التي توقف الرذاذ عن التدفق منها. لا شك أنه مجنون. لكن ما شأني أنا؟ ما يهمني هو أنه ذهب بعيداً عني ولم يجبرني على تغيير مقعدي الذي طلبته بالاسم تقريباً من فتاة الشباك النحيلة العزباء التي بت أستطيع الآن – في ضوء عزوبيتها والسواد القاتم الذي يغلف ملامحها وملابسها وشاعرية الفيلم التي خلصتني من كثير من الغبار – أن أتفهم سبب عملها حتى وقت دخول المتفرجين إلى الحفلة الأخيرة في اليوم السينمائي في وسط البلد. استنشق ذو القميص الأزرق البالي بعض الهواء وذهب بعيداً. لكن مهلاً: إنه يتجه صوب شاشة العرض نفسها! يا له من مجنون

***

كما توقعت، جاءت النهاية حزينة. كان عليها أن تتخلص من نفسها لتوصل إليه رسالة ومغزى، وأتمنى أن يكون الفتى الصلب الأبله قد فهمهما جيداً. وانتهى العرض

لكن ماذا عنك يا صاحب القميص الأزرق؟ يا عجوز؟ هل ستلمح الدموع في عيني إذا ما اتجهت – مثلك – تجاه الشاشة لأضيع بعض الوقت في خطوات بلهاء كتسكعات الخجلى الهدف منها إضاعة بعض الوقت إلى أن تجف الدمعات في عيني؟

ومهلاً يا عجوز.. هل أتيت لتجلس أمامي لتداري دموعك عن المتفرجين الخلفيين، المشغول أغلبهم بالقبلات وبتحسس بعضهم البعض؟ وكيف تبكي على أحداث أظنك تستطيع أن تراها يومياً؟

***

الرجل مات. عجوز ومرهق ويعمل حتى وقت متأخر من الليل في جو شديد البرودة ويعاني من صعوبة في التنفس، كانت مزعجة. جاء ليشم بعض الهواء، كنوع من الوداع للدنيا ولنسيمها، أو جاء ليستريح لينهض ويؤدي دوره من جديد قبل فتح الأبواب. جلس في المقاعد الأمامية المهجورة – مثلي – ليختفي عن عيني مديره القاسي ذي الشارب الكث. ظلمته، تماماً كما ظلم الفتى فتاته على الشاشة وأودى بها، ولكنني لم أود به ولم أملك ولم أكن لأفعل لو ملكت. ومهلاً يا عجوز، لقد كفرت عن سوء ظني بك بعض الشيء حين كنت – بفضل السائل المتدفق من عيني – من اكتشف أمر موتك. وهكذا أصبحت الدموع في عيني طبيعية ولم أسع لإخفائها عمن جاء ليستوضح أمر وفاة الرجل العجوز

***

في المرة التالية التي دخلت فيها نفس الفيلم اخترت تذكرة تؤهلني للجلوس بين الناس، في منتصف الصفوف طولاً وعرضاً. وأعجبتني نفس الموسيقى التمهيدية لحد ما، أو لعلي وجدت نفسي متسامحاً معها هذه المرة. ولم أشعر بأي رغبة في البكاء في تلك المرة التالية، فالبكاء في المرة الأولى تحقق رغم أنف الناقد. صحيح أنه تحقق لسببين غير ما كنت أظن، ولكن من قال إننا لابد أن نبكي على أنفسنا فقط؟

أما عن فتاة التذاكر النحيلة العزباء الفقيرة القاتمة ذات التقاطيع الجميلة، فقد لمحت دبلة رفيعة في يدها اليمنى، وكم فرحت لها

وشربت المياه الغازية واشتريت المناديل أيضاً

**********

وديانتي مصري

المهنة مصري
وديانتي مصري
ولا عايز أبقى غير بس مصري
لا أرحل وأغادر
ولا يوم أسافر
في ميعاد ولازم أصحاله بدري
ترحل صحابي
تهجر عتابي
ولا مرة أفكر أخلع ف جذري
بغربة أشعر
لسنين وأشهر
وأشوف غياب على مد بصري
لا نيل بيروي
ولا قمر بيضوي
ولا صحبة حلوة تئنس في سهري
الكل واقف
عند المواقف
وسابني وحدي ولا شد أزري
والناس حزينة
ويمكن رزينة
وانا برضه قاعد.. باينني فقري
يقولوا اني
موهوم لأني
شايف أمل قدام بيجري
مع إنه مات
وكمان ساعات
يصحى يقوللي روش وطري
وانفد بجلدك
واجني في سعدك
بلدك بتطرد كمحطة نووي
ولا بحث علمي
على حد علمي
والمخ فيها بقى لحمة بقري
والكوسة ماشية
والصفوة راشية
وانت هنا بتنكت وتهري
ماشي يا سيدي
إيدك ف إيدي
كلامك صحيح ومفعوله سحري
لكن لو إحنا
كلتنا رحنا
مين فينا اللي حيبقى مصري
؟؟؟

حلمت

لأول مرة أحلم - نائماً - منذ زمن بعييييد.. حلم مشوش، نعم. وقصير، صحيح. لكنه حلم في كل الأحوال، أو هو التجربة المنامية الغامضة الدافقة التي ظللت أفتقدها وأتحسر على أيامها طيلة عامين (تقريباً). لن أطمع في تجربة ليلية جديدة أوضح أو أطول أو حتى أعمق في القريب العاجل، فأنا أحب الأشياء المتصاعدة (وليست المتدرجة بالضرورة) وأحب ترك الأمور - حتى الأمور - على هواها وحريتها كي أشعر بها بصدق أكبر. فلتتصاعد تجاربي المنامية على مهل إذن ولترسل لي إشاراتها وقتما وكيفما شاءت أو شاء صانعها، فمتعتي واحدة ولا انتقاص منها. لن أسعى - بالطبع - لفك شفرات ورموز ما رأيت - نائماً - بالأمس القريب، فلن يجدي معي في شيء أن أكون عقلانياً حتى في عالم الأحلام، ولا أن أتشبه بالمؤمنين بالخرافات (وما أكثرهم حولي). المهم أنني حلمت، وكفى. لن أسأل عن أهمية الطاولة المستديرة في منتصف الغرفة، ولا عن سبب انقشاع الضوء تدريجياً - نعم - واهتزاز مصدره باستمرار، ولا عن نوع عطر محدثتي في الحلم وما إذا كان طبيعياً، ولا عن سبب استمرار المشاهد في أحلامي على اللونين العتيقين (الأبيض والأسود، كما في الستينيات). لا أعبأ بكل ذلك ولا أريد له من تفسير. فقط حلمت، حسناً؟

شكرا لك يا صانع أحلام البشر، أياً كان كنهك

بلا عبق

يبدو عالمي أحياناً أصغر بكثير مما هو عليه فعلاً
يضيق، وأختنق؟
أم يدنو ويميل بحنو حقيقي نحوي - أنا - فأشعر به أكثر حميمية وأرحب صدراً؟
تبدو المهام متعاقبة، متلاحقة
والوجوه والأصوات والانطباعات ثابتة
ويبدو المكوث في ذات المكان لساعات طوال مألوفاً واضطرارياً
أشعر باقترابي من نفسي الحقيقية، بقربي الكاشف منها
وأرى الأشياء وكأنها وراء عدسة مكبرة
أرى التفاصيل والرتوش، في الأشياء والوجوه والأحداث.. في كل ما بوسعي اختزانه
أشعر بضيق، وبانفراج، في نفس اللحظة
أجد ريح السجن في أعمق قبو كاحل، ونسيم التحليق فوق أعلى تل ثلجي، في لحظة واحدة
يا له من تناقض
!!!
عالمي يضيق ويتسع في لحظة واحدة
أحب - في تلك الأحيان - تفاصيله وفهمي الزائد الاستثنائي لها
على أني أكره - في تلك الأحيان - رتابته القسرية
كم أكره أن أرى نفسي أمام مرآة ناصعة طوال الوقت
وكم أكره أن تكون كل خلجاتي تحت منظاري الدقيق
أعرف قسوتي في الحكم على تفاصيلي وأشيائي
وأعرف عيوبي جيداً ولا أحتاج أن أراها مضخمة هكذا
***
أود لو اتسع العالم بالنسبة لي بعض الشيء
أود أن أشم هواء جديداً، ليس له عبق
أود أن أنام كل ليلة، كل ليلة، بلا ترقب للأرق
أود ألا أصافح نفسي خاجلاً، بيد يتصبب منها العرق
أود أن أرى الأشياء من بعيد: صغيرة، أنيقة، وغير مركبة ولا مكبرة
أود لو اتسع العالم، عالمي
لكن.. كيف أضمن ألا أضل الطريق إلى الحقيقة، حقيقتي أنا على الأقل؟
***
أود لو أرى الأشياء بأحجامها الطبيعية، وكفى

قوس كامل

الأحمر.. عند الوداع تنحدر الشمس، تركع ذليلة، وتكاد تنتحر في أبعد نقطة في بحر هادئ قريب

البرتقالي.. تبعث من جديد، أو تكاد. ترسل إشارات مقدمها الأولى

الأصفر.. عند انتصاف النهار، "هي" في كبد السماء، متألقة وحارقة. الاقتراب منها ضريبته جد باهظة

الأخضر.. سهول عذراء خصبة، تتلمس أعشابها الشعاع الحار المسافر لمسافة خمس دقائق، تقريباً، عبر أثير مجموعتنا المحلية. إنها السهول البعيدة التي أرى فيها الطيور الكبيرة الراقصة

الأزرق.. البحر يتأهب من جديد لابتلاع كرتنا النارية، لسحقها وتقديمها قرباناً - مؤقتاً - لود قوم آخرين

النيلي.. انعكاس تلقائي لنهد رشيق على نافذة عرض مكسية بلون الطمي (أو هكذا ظننتها)، في نفس الشارع التجاري الأنيق

البنفسجي.. كآبة في لحظة الوداع الروتيني للقرص الأصفر؟ أم سمو وترفع ووقار وغموض؟

***

اليوم رأيته، نفس القوس الإهليلجي الأثير الذي لم يتغير منذ أيام الطفولة. لكن أطبيعي أن يلوح في حزيران؟؟

لما بنكبر

معاني كتير بتموت جوانا
كل ما نكبر، كل ما نعقل
نفقد لهفة ليلة العيد
نفضل نرزن، نفضل نتقل
نفقد خوفنا ف وسط الضلمة
نفقد حيرة وإنت بتسأل
نكبر، ننسى معنى الحلم
ونخاف نحلم لا الناس تزعل
نبقى في قمة حال الشر
ونوهم روحنا إننا كده أجمل
فجأة نلاقي الوقت بيجري
والقطورات لازم تتحصل
نفقد همس براءة جميلة
والإحساس جوانا بيعطل
نقتل طير راقد على فرخه
جوة الشجرة. وإيه راح يحصل!؟
جوه الدايرة نلف ندور
والدوامة تاخدنا وترحل

لما بنكبر، وأما بنرزن
بتتوه فينا حاجات وحاجات
مش بنداري القسوة ساعات
ولا بنحس الفرحة في يومها
ولا بنشوف قدامنا كتير
والأحلام بتضل طريقها
وكتير منها عمره ما يوصل

نفضل عايشين يوم ورا يوم
بكرة وبعده زي اليوم
هو إمبارح بس المبهج
بنخاف نضحك لحسن نزعج
حتى غنانا بيبقى خفوت
والأيام عمالة تفوت
ونقرب أكتر م الآخر
مش كده أريح؟ مش كده أسهل؟

ذاكرة الشواطئ

كل شبر هنا أعرفه جيداً، أحفظ تضاريسه ومقوماته. أعرف النتوءات والوديان الصغيرة في سور الكورنيش الدائري: أعرفها حين يضرب بجذوره العميقة في سفر التاريخ المنسي جهة الغرب - حيث الميناء، وأعرفها حين يسعى لتجديد شبابه ورونقه جهة الشرق - حيث القصر. أعرف وجوه كثيرين من بائعي الفريسكا والمثلجات والترمس والحمص الحار، بسمارها الجنوبي المميز وقسماتها الحادة التي لا تكاد تبتسم إلا للزبون السخي. أعرف تلك المناطق من السور والإفريز التي يندر أن تجلس قبالتها دون أن يغمرك رذاذ المياه المتصادمة مع الصخور المعشبة الهائلة، وتلك المناطق الآمنة بالنسبة لمن لا يود أن يعود إلى بيته محملة ملابسه بالنداوة المالحة. أعرف أين يكون البحر عميقاً مغرقاً، وأين يكون ضحلاً وديعاً - ألست ممن يجيدون لغة الألوان البحرية؟.. أعرف أين يمكنك أن تهمس إلي اليم - مسماه المهجور - دون أن يسمعك ذو شأن، وأعرف أين يمكن أن يُكَلَّل بالموافقة طلبك من المارة العابرين التقاط الصور التذكارية لك مع من تحب، بمن في ذلك نفسك. أعرف حتى أين تكثر الحوادث ، وأعرف مناطق العبور الأكثر أماناً، حيث يمكنك أن تتسلى بعملية العبور دون أن تخشى على عظامك أو على حاجياتك وهندامك

أعرف الشريط الشاطئي كله، ومنذ زمن بعيد.. هنا تكثر الفتيات الجميلات المتدللات في خفة أمام أعين الناظرين، وهنا ترى أردية السباحة المتحفظة وقد أكسبت المكان وقاراً غير منطقي ولا متناسب. هنا الأسعار مناسبة أو الدخول مجاني، وهنا شاطئ خاص للصفوة، إن انطبقت التسمية. هنا الرمال أكثر استماتة في التوحد بالأقدام، وهنا رائحة اليود المنعشة تبلغ أعلى مستوياتها. هنا تجد مقهى على الجانب المقابل يبيع المشروبات المعلبة بأسعار أرخص منها على الشاطئ - وإلى جواره عربة سندوتشات الجمبري الشهيرة، وهنا الشاطئ المقفر يبدو واحة غناء بالنظر إلى جانبه السكني المقابل.. أعرف كل كل شيء: حتى أين يمكنك أن تجد القطط تتسكع عند أقدام العشاق الجالسين على المقاعد الأسمنتية الريفية القميئة، وأين يكثر الشحاذون اللحوحون -كعادتهم، وأين كان يقع الكازينو الشهير القديم الذي كاد رشدي أباظة ينتحر عنده - على الشاشة

أعرف كل الأشياء في هذا المكان، لكن المكان نفسه لا يعرفني. لا أعرف العوم، ولا أحب الهمس إلى البحر في حضرة المتطفلين - وما أكثرهم في الموسم الراهن. لا أشتري الحمص الحار المضافة إليه مرقة الدجاج ولا آكل الترمس المنقوع لعدة ليال في مياه ترعة المدينة الجنوبية. والقطط لا تملك وفاء الكلاب وسرعان ما تنسى من ألقى لها ببقايا الطعام، وربما بالأخص قطط الشواطئ. الكل هنا هوائي، ولا أحد يذكر من رأي بالأمس وممن اشترى في الصباح وعلى من تلصص في غرفة خلع الملابس منذ لحظات. الشواطئ لا تتسم بالوفاء، ومرتادوها كذلك. الكل عليها عابرو سبيل.. عابر يمضي ليأتي محله عابر جديد بذاكرة - كذاكرة سابقه - عديمة الوفاء كذاكرة الأسماك ذات الثواني الثلاث. حتى مكاني الأثير، بجوار الصخرة المتوسطة، عند النتوء البارز على السور القديم، قبالة المقهى الذي كان ثقافياً في السابق.. حتى مكاني التليد لا أجده في انتظاري كلما أردت استخدام حقي في الجلوس فيه: فكثيراً ما يستقبل غيري بترحاب المتملقين، وكثيراً ما يذرو هواؤه أوراق الجريدة التي أضعها تحتي في جلستي لأجل نظافة سروالي. الكل على الشواطئ لا يحفظ الوجوه ولا العهود. حتى قصص الحب التي تبدأ على الشواطئ غالباً ما لا تتسم بالدوام

كيف أصادق المكان بذلك العمق ولا يصادقني هو ولا يفكر حتى في ذلك؟

حاجيات مهجورة

هل ترددت عليها؟
لا أظنك صادقاً
عيناك الزائغتان تشيان بأنك ذهبت، كثيراً كثيراً
والعرق اللامع المتساقط على خديك.. ألمح فيه اعترافاً ضمنياً بالكذب
كذبكما

............
............

كيف كانت في غيابي؟
أصحيح ما أخبرَتني: تعاني العذاب؟
عذابي؟؟

...........
...........

هل أهديت إليها شيئاً؟
أعرفها جيداً، عاشقة للرجال وللهدايا
عطر شبق نافذاً؟ خلخالاً فاضحاً رناناً؟
أم رداء نوم ماجناً لا يُهدَى إلا للبغايا؟

...........
...........

هل خضت غمار الحكي معها؟
عن طموح؟ عن آلام؟
لا تقل إنها كانت تتهرب من الكلام
!!!
هل هتكْت سكون ليل هدني منذ فراقه؟
هل ولجت فيها حداً كان لي وحدي اختراقه؟

...........
...........

هل حكت لك عن شمال مقفر حتى الملل؟
عن جنوب بارد؟
هل باغتَتك: من فينا لا يقرب الزلل؟
هل أخبرَتك عن طيور بائسة، ومياه راكدة؟
عن عناق؟ عن شجار؟
هل رويت لها الأشجار؟

...........
...........

آه، دعتك إليها متوددة
هل كانت حميمية، كعادتها؟
جريئة؟ متلهفة؟
أم لعبَت دور العذراء المترددة؟
هل أقنعَتْك في دور الذكية المتمردة؟
هل أرشدَتك إلى حاجياتي وحرضتك على استرخاصها؟
قلمي الثمين وقلامتي المفضلة
هل أخبرَتك بأنها قبلك كانت طاقة معطلة؟

...........
...........

هل بكت عند قدميك؟
تفعل ذلك في كل مرة، قبل الشروع
وفي كل مرة تسترق النظرات إليك
تعرف كيف تدير الدفة وسط سيل الدموع
وكم مرة بكت لديك؟
هل قبلت يديك؟
هل مزقت أزرار قميصك في إحدى المرات؟

...........
...........

في أي مقهى مخملي التقيتما، بعد إتمام الوصال؟
عصير المانجو الطازج، أكيد
هل تحدثتما عن الدواعي؟ المشاق؟
عن المتاعب والنضال؟
عن ملل الرحيل وكيف يقطع الأوصال؟

...........
...........

أشم نسيماً ليس لي، في ساحتي
اه منك.. فتحت كل مسامك عليها
يالك من شره
!!!
أكنت يومياً تأتي إليها؟

...........
...........

لا دموع عليها أبداً
انتهى عصر الدموع
واقعية؟ أم برود؟
أم تهاون في الدفاع عن الحقوق؟

...........
...........

لا تظن بي الظنون
لست بخانع ولا بمجنون
ما كنت إلا مثلك.. أحد المترددين عليها
بيد أني الوحيد الذي ترك أمتعته لديها
قلمي وقلامتي، وماعدت أريدهما
خذهما إن شئت، أو اتركهما للتالي
أو... لربما كنت أنت التالي

حروف هجاء وجودية

(أ)
أرتحل بين ساحتين، وأقطع الطريق الوحيدة الرابطة بينهما ذهاباً وإياباً مرات ومرات في اليوم الواحد. صحيح أنني لا أعرف أحداً في هذه أو تلك، وأن هواء الساحتين الساخن لا يروق لي.. لكن، أليس هذا بأفضل من أن أقبع في نفس المكان في انتظار ما لا يجيئ؟

(ب)
بمرور الوقت، بعد الحدث الأهم، أشعر بأن إحساساً جديداً غير مألوف ولا مفهوم بدأ يدب في أعماقي ويطرق بابي بعنف. هل سبق لك أن عايشت ذلك الإحساس المهيب العميق الذي يراود الناس فجأة ويتملكهم بالكامل دون أن يفصح لهم عن حقيقة مكنونه ولا عن دوافعه إلى زيارتهم بذلك الإلحاح؟

(ت)
تشعر أحياناً – وبالأخص عند الغروب في أيام الشتاء القصيرة – بأن هناك من رحل قبل أن ينجز مهمة ما خطيرة وكاشفة كلفه بها شخص لا يعرفه ولا يثق به، وتظن أنك تعرف أحد الشخصين جيداً

(ث)
ثمة حالات نتوخى فيها الحذر ثم نندم، وحالات نندم لأننا ما توخينا فيها الحذر بإحدى درجاته. المهم أنه دائماً علينا أن نندم لسبب أو لآخر في هذه الحياة

(ج)
جميل جداً أن أتحرك في أي اتجاه فلا يجد الوقت سبيلا إلى دهمي.. هذا ما أظن أغلب الأوقات، لكن من أين آتي بقوة الدفع اللازمة لذلك التحرك، ناهيك عن بوصلة تحديد الاتجاهات في عالم ركامي؟؟

(ح)
حياة واحدة لا تكفي، بكل تأكيد، لفك شفرة ولو سر كبير واحد من أسرار حياتنا الكبرى. الغريب أن كثيرين يدَّعون أنهم فهموا كل شيئ - تقريبا - في أقل من حياة واحدة، مع أنهم لم يتلبسوا أبداً بالتفكير في أي شيء. نفس القاعدة الكونية: الكل راض عن عقله

(خ)
خارج حسابات الزمان تفقد كل الأشياء قيمتها، لكن ليس للمكان التأثير ذاته في كل الأحيان أو على كل الأشياء. النسبية لا تعمل دائماً، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بمتغيرات تحت سيطرتنا النسبية

(د)
دليلي الوحيد إلى فهم نفسي هو نفسي ذاتها، وربما لهذا السبب بالذات لم أعد أفهمها، على فرض أنه قد سبق لي ذلك أصلاً

(ذ)
ذات مرة سأقتبس قبس سعادة من عابر سعيد وسأشعل به شمس سعادتي قبل أن تتحول إلى قزم فلكي أبيض رديء. أنا واثق من هذا، لكني مازلت فقط في انتظار عبوره والتثبت من كونه يملك فائض سعادةً

(ر)
رأيت نفسي في أحلام ليلية عديدة (وإن كنت لا أكون بطل أحلامي في كل ليالي الأطياف)، وفي كل مرة أتشكل لنفسي في هيئة مختلفة بوضوح. القاسم المشترك بين كل المرات، أو الهيئات، هو أنني أكون دائماً في حالة بحث ليلي يائس عن شيء مهم: معنى ما أو تفسير ما

(ز)
زلاتنا لا تنتقص من قدرنا ولا تفقدنا مكانتنا - بالضرورة - أمام أنفسنا بقدر ما تفعل نفس الشيئين أمام الآخرين، أو بالنسبة إليهم. والعلاقة بيننا وبينهم تبادلية بالطبع

(س)
سمائي مختلفة جداً عن سمائك: على الأقل سمائي تحدد سقف حدودي أنا – بالذات – القصوى

(ش)
شارعي ليس بالضرورة الذي أسكن فيه. قد يكون هو الشارع الهادئ الضيق الطويل الذي يسكنني في لحظات شرودي الجغرافي منذ الصغر، أو لعله ذلك الذي تسكنه ذكرياتي الغالية مع أحباء كان عليهم أن يرحلوا، لأسباب أعلمها وفشلت - عكسهم - في إقناع نفسي بها

(ص)
صغيرة جدا كلمة "حب".. من حيث عدد حروفها فحسب

(ض)
ضاعت مني أشياء كثيرة لم أندم عليها، فندمي الأكبر هو على حلمي البسيط الذي لم أستطع أبداً تحقيقه، فما بالك بإضاعته من بين يدي

(ط)
طالما شعرت بذلك الوخز الخفيف في ضلوعي واستهنت به. اليوم فقط عرفت أنه لم يكن وخزاً. لقد كان ناقوس تحذير من ألم أكبر متصاعد، في القلب

(ظ)
ظواهر كثيرة في حياتنا هذه ليس لها تفسير مقنع، على أن هذا في حد ذاته لابد أن يقنعنا بالبحث لها عنه بدأب لا ينقطع

(ع)
عانيت كثيراً في غيابها وظننت أن كل شيء قد انتهى للأبد، بما في ذلك شخصي وكياني (على اعتبار أن الفراق بكل قسوته نجح في جعلي من "الأشياء"). وحين عادت، في مفاجأة كاملة وغير مرغوب فيها، شعرت بمدى تفاهتي وتفاهة معاناتي السابقة

(غ)
غيرت عنواني، لكن يزعجني أن الخطابات مازالت تصل إليَّ من نفس الأشخاص الذين انتقلت لأقطع الوصال معهم إلى الأبد. كم هو وفيٌّ ساعي البريد العجوز

(ف)
في يوم واحد شعرت بالفرح، ثم الحزن، ثم الندم، ثم اللامبالاة، ثم زارتني تباشير فرح جديد.. دورة حياة شعورية كاملة بين شمسين. حقاً، ما أقصر وأتفه تجارب البشر

(ق)
قليلون هم من يلاحظون ألوان أعيننا الحقيقية. هل لاحظت ذلك؟

(ك)
كلما مررت بنفس الطريق تذكرت حوارنا الذي كان من المفروض أن نكمله فيه. لكن، على أي حال، هناك حوارات أخرى غيره - أكثر أهمية - افترقنا قبل أن نبدأها حتى. أظنه عليَّ أن أتجنب المرور في طرق وسط المدينة، لحين عودة الغائبة

(ل)
لو لم أحلم بها في تلك الليلة، هل كانت القصة برمتها ستبدأ في الصباح التالي؟ وهل كنت لأوفر على نفسي وجع القلب الشهير؟

(م)
مازالت الأشياء تحتل مكانة الصدارة في قلبي: أحن إليها، أفتقدها، وأتحين الفرص للقائها ومعانقتها فوق الشوارع المغسولة بماء المطر وأضواء السيارات. والناس المرتبطون بالأشياء، كذلك، أشتاق إليهم بين الحين والآخر

(ن)
نامت، وسهرت أنا في حراستها. ولما صحوت من غفوتي - أو هفوتي - العابرة، لم أجدها. هل كنت أحتاج حارساً إضافياً؟

(هـ)
هل تحلم معي بعالم من صنعك أنت؟ هل تحلم بإعادة عقارب الساعات إلى الوراء بعدد ساعات عمرك الماضية؟ حسناً، لا أنصحك بممارسة ذلك الحلم المضيع للوقت والشغف. انظر إليَّ وتعلَّم

(و)
ومضت الفكرة في رأسي ليلاً، حلمت - أو احتلمت - بها مرتين على الأقل في نفس الليلة. ولما صحوت منتشياً وتحمست لتنفيذها وجعل حياتي بها أجمل، وجدت أنها ما كانت سوى شهوة لا يمكن بناء أي نجاحات حقيقية عليها، أو على الأقل في غير مضامير المجون

(ي)
ينتابني شك كبير في قدرتي على الصمود في مواجهة أكثر ما يحبط البشر ويكسرهم، لكن لا يراودني أدنى شك في قدرتي على نسج الأحلام، لي ولمن أحب. ولا أظن أن هذا يكفي

------------------------------------------------------------------------------------------------


بتَصَرُّف، نقلاً عن مجموعتي القصصية/النثرية الأولى - مطبوعات هيئة قصور الثقافة، 2004


في البدء..

...

كنت حتى وقت قريب جداً غير مقتنع إطلاقاً بأهمية أن تكون لي مدونتي الخاصة التي أهتم بتحديثها دورياً وببث بعض من أفكاري ومشاعري فيها. كنت دائماً ممن يعتقدون أن النشر في الصحف أفضل من عدة نواح حين يتعلق الأمر بآراء أو معتقدات أود طرحها للنقاش والتفاعل، وأن النشر ضمن "النووتس" في الفايسبوك أو حتى الاحتفاظ بالأعمال وتجميعها لحين نشرها معاً في مجموعة كاملة فيما بعد هو الخيار الأفضل حين يتعلق الأمر بأعمال ومحاولات إبداعية من نوع أو آخر. فمسألة تحديث المدونة بشكل دوري متكرر كانت تمثل بالنسبة لي دائماً مصدراً للتقييد لا أحبه ولا أشعر بأنني مضطر إليه، خاصة وأن حياة المرء لا تنطوي طوال الوقت على ما يمكنه أو ما يجب عليه تدوينه بانتظام.. فهناك أيام لا نمر فيها بأي جديد أو لا نعايش فيها ما يستحق التوثيق والحفظ، وهناك أيام نكون فيها سعداء أو تعساء لدرجة أننا لا نجد في أنفسنا أية قدرة على التدوين، وهناك أيام نمر فيها بما يستحق تدوينه ونكون فيها مهيأين لذلك مزاجياً ولكن تحول بيننا وبينه مشاغل أو ضغوط من نوع أو آخر.

فما الذي يدفعني الآن، هكذا بغتة، إلى التدوين؟

...

لكن.. هل حقاً باغتتني الرغبة في التدوين بعد طول رفض من جانبي لها ونجحت بشكل ما في إجباري على إشباعها؟ هل كانت المسألة مفاجئة وغير مرتبة تماماً بالنسبة لي؟؟

لا أظن ذلك. ربما يكون ما حدث على الفايسبوك مؤخراً من اختراقات وقرصنة قد أجبرني على التفكير في إنشاء محل تواجد بديل لي لأن الفايسبوك لم يعد بنفس درجة الأمان التي عهدتها على مدى عام كامل تقريباً. لقد أشعرتني تلك الهجمة المتأسلمة على بعض الـ "بروفايلات" والـ "جروبات" التي كنت ضمن المهتمين بها - أشعرتني بأن كل شيء على ساحة الفايسبوك قد يضيع منك في لحظة وتفقد بصمات وآثار غرستها - أو حاولت - على مدى شهور وشهور.. كل شيء مهدد بالفناء في أي لحظة: أصدقاؤك، جروباتك المفضلة، النووتس الخاصة بك، تعليقات منك ولك من هنا أو هناك، صور لك أو لمن تحب، أنشطة وأحداث، ... إلخ إلخ. كل شيء ممكن أن يضيع في لحظة واحدة، بناء على رغبة مراهق متطرف شاء أن يجاهد إلكترونياً - كما أوهمه من ضللوه - بأن يمسح كل أثر إلكتروني لأشخاص يتبنون توجهات فكرية معينة لا توافقه فكرياً ولا توافق على تطرفه وانعدام التسامح كلياً لديه.

ربما يكون ذلك الاختراق الأمني الخطر الذي شهده الفايسبوم مؤخراً قد عجل بدفعي إلى اقتحام عالم التدوين للمرة الأولى بعد طول رفض أو غياب. لكن هل كان هذا هو السبب الوحيد؟

...

أظن أن المسألة أكبر من ذلك بعض الشيء. لقد بدأت منذ فترة قصيرة نسبياً أفكر في دخول عالم التدوين لأن هناك دائماً بعض الأفكار والآراء التي أود طرحها على ملأ أوسع وعلى قطاع أعرض بعض الشيء من القراء والناشطين، إذ ربما أسهم بذلك إسهاماً بسيطاً متواضعاً في دفع إلقاء مزيد من الضوء على قيم معينة أؤمن بها بشدة وأتمنى لو آمن بها الجميع: المساواة والعدالة، التسامح، والتفكير العلمي المنطقي. وبما أن معايير الخصوصية الخاصة بي على الفايسبوك كان لابد أن تصبح أقوى وأكثر صرامة في الفترة الأخيرة لتجنب هجمات مؤذية محتملة من المجاهدين الإلكترونيين المخدوعين، وللحفاظ على درجة ما من الخصوصية بشكل إجمالي أمام غرباء لا أعرفهم بالضرورة ولا يجب أن يكونوا على علم تام بأطروحاتي وتوجهاتي، فإنه كان لابد من البحث عن فضاء بديل، فضاء مفتوح وأكثر رحابة، بحيث يتسنى لي عرض ما لدي لأعرضه على قطاع أكبر من الناشطين والأصدقاء وحتى الزوار العابرين.

...

وثمة سبب آخر دفعني إلى التدوين.. إنه يتعلق بروايتي الأولى التي أكتبها الآن والتي أنوي نشرها إلكترونياً بعد حوالي الشهرين من نشرها طباعة (في مارس القادم على أقصى تقدير)، وقد رأيت أن النشر في حلقات عبر مدونة كهذه سيكون خياراً ممتازاً في هذه الحالة وفي ذلك الحين. فالتفاعل الحي مع فصول الرواية المنشورة يمكن أن يزيد التجربة ثراء وأن يلفت نظري إلى كثير مما من المحتمل جداً - بل ومن المؤكد - أنه سيفوتني وسأغفل عنه في سياق عملي الروائي الأول.

...

إذن، فلتجربتي التدوينية - أو لإقدامي على تجربة التدوين بعد رفض طويل نسبياً - دوافع وأسباب متعددة، ولعل أهمها أنني راض تماماً عنها بل ومتشوق لها. لكن لا أظنني سأستطيع في الأيام الأولى من عمر تجربتي التدوينية هذه أن أدون بمعدل غزير أو منتظم، وأظن أن مدوناتي الأولى ستكون في أكثرها عبارة عن نقل لأعمال أخرى كتبتها من قبل ونشرتها إما في الصحف وإما على الفايسبوك. فالمشاغل الآن كثيرة والمزاج العام غير موات لغزارة تدوينية أو كتابية بعيداً عن العمل الروائي الأول، ولكن ما يهمني الآن هو أنني اقتحمت عالم التدوين - أخيراً - وأنني سعيد بذلك بحق.